سيأتي ذلك اليوم، شئنا أم أبينا، الذي نلملم فيه أشيائنا، نجمع ذكرياتنا، نبحث في المكان عن زمان قضى، لنضع إنجازات سنين شبابنا في صندوق من ورق، نحمله ونخرج مودِّعين ثلّةٌ من الأصحاب والأحباب، لنضعه في صندوق السيّارة، ونرجع لنرمق المكان للمرّة الأخيرة بعيون يتفجر منها ينبوع شريط الذكريات لإنجازات وإحباطات كثيرة، من بين انخفاضاتها وارتفاعتها، كنَّا نحن.
يوم كنت أعلم بقدومه، فاستعددت له بهدوء، وخططت له بتؤدة، وأنا أتطلّع إليه بشغف، حتى إذا كنت هناك، عزّ علي ماأنجزت، وصعب علي الفراق. غدًا لن أصحو لأكون على ذلك المكتب أول الواصلين، لن أكون أول من يدخل عالم الأوتلوك ذلك الصباح. سوف أفتقد هدوءاً صباحيًّا تتبعه عاصفةً تبدأ نسماتها قبل السابعة بقليل لتبلغ مداها عند دخول آخر موظف ليبدأ يوم عمل صاخب جديد ومليئ بالمناقشات والإختلافات.
غدًا أكون حرًّا طليقًا، أعمل مايحلو لي في الوقت الذي أريد، بدون مواعيد تربطني في المكان ولا مكان يربطني في الزمان. أدخل عالم الحرَّية من أوسع أبوابه وقد قرب عمري آنذك من الستين، إذا كان في العمر مدد. تُرى ماذا يفعل ابن الستين؟ هل خلايا دماغه لاتزال في أوج نشاطها أم تقاعدت هي الأخرى؟ هل هناك وجود للروح الوثّابة، التي تتوق لمعرفة ماخفى وتجربة مااستجد؟ أم روحٌ عجوز تميل للرتابة والدعة والكسل؟
خططت لنفسي أن أستمر في القراءة والكتابة ، أن أركز في علمٍ طالما أحببته، أن أتتبع نجوم السماء لأعرف باردها وساخنها، بعيدها وقريبها، كبيرها وصغيرها، أن أجد مواضيع جديدة لعدستي التي لاتفارقني، وأهم من هذا وذاك، أن أجدِّد أيامي مع توأم روحي وزوجتي الحبيبة لأتفرغ لها وحدها وأعوِّضها ما فات. أعوِّضها أيّام شباب ضحت بها لتكون إلى جانبي، في دراسة أفك ألغازها أو عمل استحوذ اهتمامي أو هواية أبعدتني عنها.
أنصح أخواني وأخواتي، ممن انتصف به زمان عمله، وكان مابقي له من السنون أقل مما فات، أن يبدأ بالتخطيط لتقاعده من الآن. فعندما تصل إلى نقطة اللاعودة، يكون قد تحدد دخلك الذي يجب أن يكفي متطلباتك و متطلبات عائلتك ويكفيك ذل الحاجة إلى إبن للتو بدأ يبني مستقبله أو أخ مثقل بالتزامات لها أولويتها أو قريب لديه من الضغوط ماعلم ربك أو صديق له خططه وخصوصيته. لتعلم أنه في ذلك الوقت، لن يعيرك البنك التفاتةً لقرض احتجت إليه ولن تعطيك وكالة سيارات حقًّا في شراء سيّارة بتسهيلات تعطيها لمن هم أصغر منك. تجد نفسك وحيدًا بين الكثير ممن هم على شاكلتك. فانتبه واعمل لذلك اليوم من الآن.
استعمل برنامج الإكسل لعمل توقعات معاشك التقاعدي، فإن كان كافيًا فاحمد الله على ذلك وان لم يكن فاعمل على أن يكون، بادخار تبدأ به من الآن لاستثماره علَّه أن يساعدك عندما يزيد بياض مابقي من شعيرات رأسك، ليساعدك في يوم تكون فيه من المتقاعدين.
أقول هذا لأنني أعلم أن الكثير ممن استنفذت قواهم في عمل أجادوه، قد انتهى بهم المطاف على قارعة الطريق، ينشدون الكفاف لهم ولأهليهم. هل تعلم أن متوسط صرف المعاشات الشهرية للمتقاعدين عن طريق المؤسسة العامة للتأمينات الإجتماعية لعام ٢٠١١ كان ٣٤٠٠ ريال. ماذا يستطيع الشيخ الكبير أن يفعل بمبلغ كهذا؟ أيسدِّد فاتورة الكهرباء أم الهاتف؟ كيف إن كان مستأجراً لسكنٍ يستره عن بقية خلقه؟ أنها لمأساة أرجو أن لا تطالنا ولا تقرب من أحبابنا وذوينا.
أنصحكم بقراءة كتاب ”خطط لتقاعدك“ من تأليف الأستاذة القديرة فاطمة بنت محمد العلي، فقد أجادت وأفادت مع تحياتي وحبي للجميع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق