١- خوف
حائط مكسو بحجر بارز ... ذو لونٍ وردي ناعم ... تم اختياره لحمل ساعة الحائط ... التي جلبها خالد معه من رومانيا ... حيث اشتراها من عجوز تبيع القديم ... ليكسبها بثمن زهيد ... ساعة ذات إطار من النحاس القديم ... و مينة بيضاء خافتة تتخللها عروقٌ بنية و صفراء ... كأنها ورقة قديمة ... أخذ لونها في الذبول ... يخترقها عقربين من النحاس الصدأ ... لم يتحرّكا منذ فترة طويلة ... قد عمل خالد على إحيائها ... و تنظيفها ... حتى بدأت بالحركة من جديد ... و بدأ قلبها ينبض بتكّات جميلة ... زادت من جمال هذا الحائط القديم ...
العجيب في هذا الساعة ... أنه لايوجد لديها مصدر للطاقة ... فقط بدأت بالعمل منذ تعليقها على الحائط ... و لم تقف منذ ذلك الحين ... لذا ... فلهذه الساعة ... عمقٌ كبير في نفس خالد ... الذي دائماً ما يرمقها بخوف ... و رعبٍ دفين ... يحاول أن يتلافى النظر المباشر إليها ... لا يعلم لماذا ... و لكنه يعلم يقيناً ... بأن هذا الخوف يكبر و يزداد مع الوقت ... حتّى بات لا يحبذ المرور بجانبها في دخوله و خروجه ...
صالة كبيرة تجمع خالد و عائلته كلّ ليلة ... يجلسون فيها لتناول طعام العشاء ... و مشاهدة التلفاز ... حتّى يحين وقت نومهم ... ليذهب كلاًّ منهم إلى مخدع نومه ... في هذه الليلة ... ذهب الجميع للنوم ... ماعدا خالد ... الذي يتابع برنامجاً أعجبه ... و رغب في اتمامه قبل نومه ...
جالسٌ على كرسيِّه المريح ... و هو في اندماجٍ تام مع ما يُعرض أمامه ... إضاءة خافته ... النافذة الكبيرة خلف خالد مفتوحة ... الهواء العليل يلطِّف جو الصالة ... و يحرك الستائر الشفّافة من خلفه ... هناك في الركنة القصية يقبع جداراً حجري ... ممسكاً بساعة قديمة ... و التي بدأ صوت تكّاتها بالإرتفاع التدريجي ... يطيل خالد على صوت التلفاز ... لكي يحسن من قدرته على السماع ... و هو غير آبهٍ لصوت الخلفية الآخذ في التصاعد التدريجي ... حتى غطّى على صوت المذيع ... ينتبه خالد ... يا إلهي ... ماهذا ... يدور بنظره في أرجاء الصالة ... و يركِّزه على الساعة المُرعِبَة ... و كأن عقاربها تحولت إلى لونٍ ناري ... و هي تدور في اتجاه عكسي ... يأخذ خالد جهاز التحكم ... ليُخمد صوت التلفاز ... في نفس اللحظة ... يتوقف صوت التكّات ... و يسود الهدوء أرجاء الصالة ... يدير خالد نظره إلى الساعة ... شكلها عادي و عقاربها تدور في الإتجاه الصحيح ... يجلس خالد يعيد التفكير بما حدث ... لايجد أي تفسير ... يعيد جهاز التحكم إلى موقعه في الكيس بجانب كرسيه المريح ... و يصعد إلى الطابق الثاني لينام ... يكاد خالد يجزم بأن هناك أصوات منخفضة جدّاً ... لإناس يتحدّثون همساً مصدرها الصالة السفليّة ... يطل من موقعه في الطابق الثاني عبر فتحة الصالة العلوية ... ظلام دامس ... هدوء تام ... يدلف إلى جناح نومه ... و قد اقشعر جسدة ... و ارتكزت كل شعرةٍ فيه ... يدخل غرفته بهدوء لكي لا يزعج زوجته ... يستلقي على السرير ... يغطي وجهه بغطاءه ... لتبدأ سنفونيته الليلية ... يشخر ... و هو غاطّاً في سابع نومة ... و مخدته تهتز مرةً كلّ ثانية ... متأثرة بصوت تكّات صاخب ... قادم من الأسفل ... يكاد يرجُّ البيت رجّاً ...
في الصباح ... يزيل خالد الساعة من الجدار ... و يضعها في أحد الصناديق القابعة في مخزن البيت القديم ... خلف الحائط إيّاه ...
٢- الجدار
البروفسور خالد ... جالس في مكتبه الصغير في المبنى رقم ١٩ ... القابع فوق جبل مدينة الظهران السعودية ... فهو عميد كلية الدراسات الميتافيزيقية لجامعة الظهران... اهتماماته تنحصر في جميع ما لا نؤمن به ... في الأحلام و الأشباح ... في القصص الغريبة التي كنا نسمعها من أجدادنا ... في الموت ... في مصاصي الدماء ... في الموسيقى التي تُسْمَع في عمق الصحراء ... و في جميع الظواهر الغريبة الأخرى ... التي يحاول الإنسان أن يفسِّرها ... حتى حين يعجز عن ذلك ... يحيلها إلى كلمات لا تعني الحل أبداً ...
يسافر في كل أرجاء المعمورة ... ليحصل على تفسير لحدث غريب ... و يمضي جل وقته في قريةٍ صغيرة قديمة من قرى رومانيا ... لأن أكثر من تسعون في المائة من هذه القصص الغريبة ... بدأت من هناك ... و في آخر سفراته العديدة ... أحضر معه ساعةً قديمة ... و التي سبق أن حكينا عنها في قصَّة ”الساعة“ ... و هو لا يعلم أنه بمجرّد تعليقها على الحائط القديم ... قد زرع له قلباً ... أعاد إليه الحياة من جديد ...
يحاول البروفسور خالد أن يجد علاقة بين الساعة و الجدار ... فاستدعى عالم الآثار التركي ... و الذي كان في زيارة إلى الجامعة ... ليرى هذا الجدار العجيب ... و يدلي بدلوه ... ليعلم خالد ... أن الأحجار الوردية الجميلة ... التي بني بها الجدار ... من أصل روماني ... بل تحديداً قد تم قطعها من جبل فاجاراش ... القريب من قرية سيبيو ... أقدم القرى الرومانية ... حيث متجر العجوز ... التي ابتاع منها خالد الساعج المرعبة ... و التي تشتهر بمبانيها ... ذات الأسطح القرميدية ... و فتحات التهوية الغريبة ... و التي تدعى ... عيون المدينة ! ...
بعد يومٍ مرهق ... عاد خالد إلى بيته الفارغ ... لايوجد أحد في البيت ... فقد ذهبت زوجته و أولاده لزيارة بعض الأقارب ... ليتوجه إلى الحمام ... ليغسل تعب يومه ... يخلع ملابسه ... يعادل من حرارة مياه المَرَش ... يدلف تحت شلال المياه الدافئه ... و هو مغمضٌ عينيه ... مستمتع بحرارة المياه ... و كأن يدي خبير ... تدلك عضلات ظهره و رقبته ... ليحظى باسترخاء تام ... حتى بدأ يسمع دقات قلبه ... في أذنيه ... من فرط الإسترخاء و الراحة ... فجأة ... جلبة كبيره تنتشله من حالة الإسترخاء التي يحظى بها ... و قد تسببت في وقوع جميع أدوات النظافة ... من الرف الزجاجي الذي بجانبه ... يفتح خالد عينيه ... يرى علب الصابون و الشامبو منتثرة على الأرض ... الرف الزجاجي فارغ ... و يهتز برتابة ... هزةً كل ثانية ... قوة الهزّات في ازدياد ... إلى أن تسببت في وقوعه ... متكسراً إلى قطع صغيرة على أرضية الحمّام ... لتجرح أحدها خالد بجرح عميق يساراً من وسط صدره ... ينزف الدم ... ينقط على أرضية الحمّام ... و ينساب مع المياه إلى فتحة المصرف ... راسماً خطاً ملتوياً أحمر ... يحس خالد بعدم قدرته على حفظ توازنه ... و يقع على أرض الحمام مغمياً عليه ...
البروفيسور خالد في المستشفى ... و قد ضمد الجَرّاح فتحةً في صدره ... إحتاجات إلى أربع غرز ... من حسن حظه أن الجرح لم يكن عميقاً ... ليصل إلى جدار عضلة القلب ... زوجته بجانبه ... ترمقه بعينين دامعتين ... فمن لُطْفِ الله أنّها دخلت البيت ساعة وقوعه ... فاستدعت سيارة الإسعاف في الحال ... وإلاّ …
على سريره الأبيض ... إتّخذ خالد قراراً شجاعاً ... قراراً لايجرؤ على اتخاذه ... من واجه مارآه ... قرّر أن يركز دراساته على هذا الجدار ... يسهر الليل ليراقبه ... يدون كل ما يحصل من حواليه ... باستخدام أجهزة كمبيوتر عالية الأداء ... ليوثق دراساته صوتاً و صورةً ... و جُلّ أمله هو الحصول على سر هذا الجدار و سر تلك الساعة ... يتّصل بمُساعده في الجامعة ... يأمره بتجهيز معدّات البحث ... ليبدأ دراساته بعد أسبوع من الآن ... بعد أن يُأمِّن زوجته و أبنائه لدى جدِّهم ... و يخرج معافاً من المستشفى ... و قد ملئه الحماس ... و استولت عليه الرغبة في المعرفة ... لنرى ماهو فاعل ... و ماسوف تؤول إليه نتائج هذه الدراسات …
٣- السر
حصل البروفسور خالد ... على العديد من القصص الغريبة ... التي حصلت في مدينة سيبيو الرومانية ... و بالأخص من أصحاب المنازل الواقعة قريباً من جبل فاجاراش ... و الذين انتقلوا منها للسكن في نواحي أخرى من المدينة ... لوجود شيء ما ... يحسب عليهم تحركاتهم و يراقبهم على الدوام ... لوجود أصوات تهمس خلفهم كلما أطفئوا الأنوار ليلاً ... و لحدوث أحداث غريبة أدّت إلى تعرضهم أو أحد أفراد عائلتهم لحادث ما ... و الرابط المشترك بين جميع هذه الأحداث ... هو كون قطعة من أحجار جبل فاجاراش تحتل حيِّزاً من جدران تلك المنازل ... هل لهذا صلة بجدار البروفسور خالد ... الذي يحتل ركنة مميزة من منزله ... و لماذا بدأت هذه الأحداث الغريبة ... منذ أن علق خالد الساعة المشئومة ... على ذلك الجدار الجميل؟ ... و ماقصة تلك الساعة؟ ... و كيف تعمل بدون وجود مصدر للطاقة؟ ... أسئلة كثيرة ... بدأت تعرض نفسها على البروفسور خالد ... و الذي وجد فيها ... منطلقاً للتعمُّق في كشف هذه الأسرار ... و التي هي جزء من تخصصه ... و اهتماماته ...
إنطلق البروفسور خالد إلى المخزن القديم ... اقترب من الباب ... الباب يهتز هزةً واحدة كل ثانية ... و هناك صوت خفيف لتكّات قادمة من المخزن ... يفتح باب المخزن بحذر ... و كأنه لمح نوراً أحمر ... إنطفاء لحظة فتح الباب ... ظلام دامس ... يفتح خالد مفتاح الإنارة ... يحاول أكثر من مرّة ... المصباح لايعمل ... يفتح باب المخزن على مصراعيه ... لعل النور القادم من الصالة يضيء طريقه ... يدخل بحذر ... يرى الساعة ملقيةً على الأرض ... يرفعها ... يخرجها من المخزن ... و يضعها على الطاولة الكبيرة ... في وسط الصالة ... و يقف يتمعن فيها ... يقلبها ... و يلفها ... يفحصها من جميع أوجهها ... علّه يحصل على خيط ... يساعده في كشف سر الساعة العجيبة ... يجلب مكبِّراً من مكتبه الصغير ... و يبدأ فحصاً دقيقاً لجميع جوانبها ... ينهي فحصه الخارجي ... يفتح غطائها النحاسي ... ليجد ورقةً صغيرة ... مدسوسة خلف تروسها القديمة ... يسحبها بحرص و خوف ... يذهب إلى مكتبه المنزلي ... ليبدأ كشف أسرار هذه الورقة ...
ورقة قد غيّر الزمن لونها ... و علاها غبار قديم ... ملفوفة حتى أصبحت و كأنّها عوداً نحيفاً ... فتحها خالد بحذر شديد ... خوفاً عليها من التمزُّق ... فَرَدَها على سطح مكتبه ... وضع على طرفيها ثقلاً كي لا تنطوي مرّةً أخرى ... كتابات غريبة تملئها ... حبر بني اللون ... هو أقرب للون حبات القهوة المحمصة ... لغة قديمة لايعلم كنهها ... هناك رسوم على أطرافها ... و رسوم ليست بالغريبة في أركانها ... تمعّن فيها خالد ... بدأ فحصه الدقيق بالمكبِّر ... يمر على كل حرف ... و كل رسم ... ليقف عند الرسومات الموجودة في أركان هذه الورقة ... شيء في عقله يخبره بأن هذه الرسومات ليست بالغريبة ... صادفته في يومٍ من الأيّام ... و لكنه لايستطيع ربطها بما خزّنه في ذاكرته ... الرسومات الأخرى هي أشبه بعيون ذات قزحيّة مربّعة ... مهلاً ... و كأنّها ”عيون المدينة“ ... نعم هي كذلك ... هي رسمة لفتحات التهوية ... التي تعلو السقوف القرميدية المائلة .. لمعظم مباني مدينة سيبيو القديمة ... هذا خيط من خيوط اللغز التي بدأت في الإنحلال ...
قرّر البروفسور خالد ... إرسال صورة هذه الورقة ... إلى زميله البروفسور ”هندرِك“ رئيس قسم اللاهوت ... أقدم قسم في جامعة لوسيان بلاجا في سيبيو ... لخبرته في القصص الغريبة و علاقتها بالسحر القديم ... تتسارع الأحداث في القادم ...
٤- السرنمة
٤- السرنمة
بعد يومٍ حافل بالعمل و الإثارة .. قرّر البروفسور خالد أن يخلد إلى النوم .. أعاد الورقة إلى موضعها .. خلف التروس القديمة .. أغلق غطاء الساعة الخلفي .. أعادها كما كانت .. علقها على الجدار إيّاه .. و صعد إلى غرفة نومه ..
منتصف الليل .. حيث يبدأ نشاط الكائنات الليلية .. تبدأ في الحركة و الإتصال .. تزداد الهمسات المرعبة .. و الصمت الغريب .. حيث تشعر بالضجّة من حولك .. وسط هدوء الليل العجيب .. نفسك تُحدِّثك بأن أحداثاً جساماً تُصنَعُ حواليك ..لتزداد دقات قلبك .. يقشعر بدنك .. يقف شعر جسمك .. تزداد حساسية جلدك .. تسمع أشياء تعلم أنّها غير موجودة .. تكتم أنفاسك .. تحاول أن تُركِّز لتفهم مايجري حولك .. ليزداد الرعب في دمك .. فتذهب إلى سريرك .. تغطي وجهك .. لتنام .. و أنّا لك ذلك ..
يتقلّب البروفسور خالد في منامه .. يقع على الأرض .. يقوم مفزوعاً .. يحاول أن يستوعب ماحوله .. هذه هي كنبات الصالة .. و الطاولة الصغيرة في المنتصف .. و الساعة المعلقة على الجدار .. و قد تحول لون عقاربها إلى لونٍ ناري .. تدور بسرعةٍ إلى الوراء .. همسات من حوله لايكاد يفهمها .. يقشعر بدنه .. يحاول أن يفكِّر مالذي حدث .. يُقسِمُ أنّه كان نائماً في غرفته .. على سريره .. في الطابق الثاني .. و هو الآن في الطابق الأرضي .. في الصالة .. والهواء القوي يدخل البيت من نوافذ الصالة الكبيرة .. المفتوحة على مصراعيها .. ماهذه الهمسات من حوله .. يكتم أنفاسه .. يصغي .. لغةٌ غريبة .. ”يشتوا .. ساروا .. أرتايب .. نوميد“ .. يردد هذه الكلمات كي لاينساها .. يلتفت إلى الساعة في رعب .. لاتزال تدور عكسيّاً .. بتسارع .. وهي تشتعل بنارٍ شديدة الإحمرار .. و صوت دقّاتها يملأ المكان .. يقوم بخوف .. يقصد مفتاح الإنارة .. يشعل النور .. ليصمت الحدث .. يعود كل شيء إلي ماهو عليه .. يمشي إلى الساعة .. يضع يده عليها .. تلسعه حرارتها .. يلمس الجدار الحجري .. فإذا هو باردٌ كالثلج .. يمشي رلي الطاولة .. يتناول دفتره و قلمه .. و يكتب ماحدث .. مارأى وماسمع ..
ماحدث ياتُرى .. كيف ينام على سريره في الطابق الثاني .. ليجد نفسه نائم علي الكنبة في الطابق الأرضي .. هل هناك تفسير لما حدث .. من المؤكّد أنه قام من سريره و نزل إلى الطابق الأرضي لينام على الكنبة .. هل سَرْنََمَ (سار وهو نائم)؟ .. هذا هو التفسير العقلاني الوحيد .. فهو يعلم يقيناً أنه نام في سريره .. ولم يستيقظ أبداً ليلة البارحة .. هل هو من الذين يسيرون وهم نائمون؟ .. أم يتخيل إليه ذلك .. يا الله .. الأحداث الغريبة في تسارع .. إحساسه بعدم الخصوصية في ازدياد .. و كأن هناك من يراقبه على الدوام ..
يجب عليه العمل بسرعة ..يجب فك لغز الساعة و علاقتها بالجدار الحجري .. يقصد مكتبه المنزلي الصغير .. يفتح جهاز الحاسوب .. يتفقد بريده الألكتروني .. لعل البروفسور هندرِك وجد حلّاً للغز الورقة المطويّة .. للأسف لم يصله أي بريد إلكتروني منذ أرسل صورة الورقة .. و كأن الزمن توقّف .. منذ يوم أمس ..
٥- ديجافو
يشعر البروفسور خالد بتعب شديد .. و بحاجة ملحة للنوم .. يرمق الساعة بخوف .. عقاربها تشير إلى الثانية عشر .. منتصف الليل .. يكاد يُجزِمُ أنها كانت كذلك عندما استيقظ فزعاً قبل قليل! .. هل توقف الزمن؟ .. هل عاد الزمن إلى الوراء؟ .. قبل أن ينام .. نقل ماكتبه مسبقاً في رسالةٍ إلكترونيّة .. وأرسلها إلى زميله البروفسور هندرِك .. على أمل أن يأتيه الرد بعد أن يستيقظ .. بتثاقل .. صعد لينام على سريره في الطابق الثاني .. يصعد درجات السلم .. هناك في الخلفية همسات ليلية .. تنطلق من ناحية الجدار .. يتردد صداها في أنحاء الصالة .. يُسرع الخطوات .. ويغلق باب غرفته .. ليرمي بجسمه المُنهك على سريره .. و يستغرق في سباتٍ عميق .. غير آبهٍ إلى الدقّات المتتالية التي تهز سريرة .. بذبذبات رتيبة .. دُم .. دُم .. دُم ..
يتقلب في منامه .. ليقع على الأرض .. و ينتفض فزِعاً من نومِه .. على دقّات الساعة الشيطانيّة .. و التي لاتزال عقاربها تُشير إلى منتصف الليل .. يقوم فزعاً .. يعيد التفكير في لحظته .. مهلاً .. لقد مرّ عليه نفس هذا الإحساس .. ماهذا؟ .. لقد شاهد هذا من قبل .. هل أختبر عيش لحظاتٍ عاشها من قبل؟ .. صداعٌ رهيب .. خوف يملء وجدانه .. يسحب جسمه سحباً إلى خارج البيت .. يركب سيّارته .. وينطلق بها إلى مكتبه في الجامعة .. يفتح مكتبه .. يقصد الكنبة الطويلة .. ويرمي جسده عليها .. لينام ..
في الصباح .. يتصل بصديقه الدكتور حمد .. يطلب منه أن يوافيه في مكتبه .. مصطحباً معه قدحاً كبيراً من القهوة الثقيلة .. يجلس الصديقان وجهاً لوجه .. و يحكي البروفسور خالد لصديقه ماحدث .. لعلّه يجد تفسيراً لذلك .. يقف الدكتور حمد مفكِّراً .. يمشي لناحية النافذة الزجاجية الكبيرة .. يستقبلها و هو ممعن في التفكير .. يلتفت ناحية البروفسور خالد و يقول .. ”تلخيصاً لما أخبرتني به .. كنت في حالة شديدةٍ من الرعب .. أحسست بأن هذا الحدث أو الموقف قد مرّ عليك من قبل .. أو أنّك تُعيد اختباره من جديد “ .. ”نعم هذا صحيح“ .. يرد البروفسور خالد .. ”ديجافو .. هذه حالة ديجافو“ .. عاقداً حاجبيه يستفسر خالد ”ديجافو .. ماذا؟“ .. ” نعم“ يسترسل دكتور حمد .. ”هذا مصطلحٌ فرنسي يعني .. ديجافو .. شوهد من قبل .. و هي حالة طبيعية يمر عليها ٧٠٪ من الشباب .. حيث يشعر الإنسان أن هذا الموقف مرّ عليه من قبل .. أو أن هذا المكان غير غريب عليه و قد قصده من قبل .. أو أن هذا الشخص قد رآه و تحدّث إليه من قبل“ .. ”وأنت بحكم الظروف التي تمر عليها .. فإنك تعتقد أنّك تعيش الحدث أكثر من مرّة .. و في الواقع .. بسبب الرعب الكامن في نفسك .. فإنّ الدم يصل إلى الفص الأيمن من المخ .. قبل الفص الأيسر .. فيستوعب الفص الأيمن الحدث .. قبل أن يستوعبه الفص الأيسر .. فيحسب الفص الأيسر أن هذا الحدث قد شوهد من قبل .. و هو غير ذلك“ .. ”أرجو أن يكون هذا تفسيراً علميّاً منطقياً لما يحدث“ .. ”شكراً دكتور حمد .. لم أفكر في ذلك أبداً .. و لكني أعتقد أن ما يحدث هنا هو أكبر من ذلك .. و أن قوىً خفيّة بدأت تلعب لعبتها معي“ ..
هل هذه حالة ديجافو كما حلّلَها دكتور حمد؟ .. أم أن قوى خفيّة بدأت تمارس لعبتها القذرة مع البروفسور خالد؟ .. هل بالفعل توقّف الزمن؟ .. أم أنّ الزمن يعيدُ نفسَه؟ .. أسئلةٌ لاتزال تبحث عن إجابةٍ منطقية لما حدث .. وماسوف يحدث ..
٥- عيون المدينة
البروفسور ”هندرِك“ رئيس قسم اللاهوت في جامعة لوسيان بلاجا في سيبيو في مختبره الواقع في سرداب المبنى القديم. لا يزل مستيقظاً ولم يداعب النوم عينيه منذ وصلته رسالة البروفسور خالد. يحاول فك ألغاز الرسالة وسبر أغوارها. هناك مخطوطات قديمة على الطاولة الحجرية، يتوسطها كتاب ضخم ذو ورق قديم يعلوه الغبار. البروفسور هندرك يقرأ من الكتاب ويقارن ماقرأه مع مخطوطة تلو أخرى، حتى توقف عند إحداها. يلف المخطوطة القديمة بحرص، يلتفت حوله ليتأكد من أنه غير مراقب، ويدسها داخل معطفه ويمضي قدماً مغادراً المختبر.
”بروفسور خالد، أنا البروفسور هندرك، أرجو حضورك حالاً مصطحباً الورقة التي وجدتها في الساعة إيّاها. أسمع تأكد من إزالة الساعة من الجدار إيّاه قبل قدومك“. تلبية لتعليمات هندرك حسب المكالمة السريعة التي تمت بينهما، يغادر البروفسور خالد مكتبه متوجهًا إلى البيت، بهدوء وبدون تفكير، يزيل البروفسور خالد الساعة من الجدار، يفتحها ليحصل على الورقة من بين تروسها الصدئة، يعيد الساعة لوضعها الطبيعي ثم يحملها إلى صندوق سيارته. يغادر سريعاً إلى المطار علّه يحظى برحلة توصله إلى بلدة سيبيو الرومانية القديمة في أسرع وقت، وكله أمل في العثور على مفتاح اللغز ومعرفة أسرار الساعة والجدار.
البروفسور هندرك في سيارته منطلقًا إلى منزله، الشارع فارغ تمامًا على غير العادة. ظلام دامس وقد اختبأ القمر خلف غيمة كبيرة استحوذت على جُل نوره. تخترق سيارته نفق جبل فاجاراش على أطراف سيبيو، حيث البيوت القديمة والشوارع الملتوية. تخرج السيارة الصغيرة من النفق، تتهادى ببطء عبر الشارع الضيق الذي تحيط به المنازل الكئيبة من الجهتين. تعلو كل مبنى فتحات التهوية الغريبة التي تبعث الرعب في قلب كل من يخترق هذا الشارع والتي تدعى ”عيون المدينة“. يتولد لدى هندرك احساس غير مريح، إحساس بأنه مراقب، إحساس بأنه مكشوف، ويسمع بين أذنيه وشوشات وهمسات تزيد رعبه وترفع نسبة الأدرينالين في دمه. ”ماذا يفعل ... هندرك .... هاهاهاها ... عليكم به ... الآن ... هاهاهاها ... راقبوه ... استلم ... المخطوطه ...“.كلمات كثيرة متداخلة تتردد في وسط جمجمته المشحونة، ليزيد الرعب في قلبه، ويزيد سرعة سيّارته علّه يقطع هذا الجزء من المدينة ويصل إلى بيته سالمًا. يرمق عيون المدينة والتي يكاد يقسم بأنها تتبعه، حيث يراها تلمع بدموع نارية، تنعكس صورة سيارته عليهاكلما عبر أمام إحداها وكأنها عيون حية، تغلفها طبقة سائلة من الدموع الدامية. تنتهي أزمة البروفسور هندرك بمجرد بلوغه آخر الشارع المرعب. يلتفت إلى مرآة السيّارة ليرى الشارع المظلم من خلفه وقد بدأ النور الأحمر الذي يشع من عيون المدينة في الخبو رويدًا رويدًا حتى عاد الظلام يكسو الشارع من جديد. وتتناقص الأصوات في رأسه حتى تختفي هي الأخرى. يتنفس البروفسور هندرك الصعداء. يوقف سيارته أمام منزله ويخرج منها مسرعًا ليدلف من باب المنزل، يقفله عدة مرّات ويلقي بجسده المنهك على أقرب كرسي ويغلق عينيه ليستغرق في نوم عميق.
منتصف الليل .. حيث يبدأ نشاط الكائنات الليلية .. تبدأ في الحركة و الإتصال .. تزداد الهمسات المرعبة .. و الصمت الغريب .. حيث تشعر بالضجّة من حولك .. وسط هدوء الليل العجيب .. نفسك تُحدِّثك بأن أحداثاً جساماً تُصنَعُ حواليك ..لتزداد دقات قلبك .. يقشعر بدنك .. يقف شعر جسمك .. تزداد حساسية جلدك .. تسمع أشياء تعلم أنّها غير موجودة .. تكتم أنفاسك .. تحاول أن تُركِّز لتفهم مايجري حولك .. ليزداد الرعب في دمك .. فتذهب إلى سريرك .. تغطي وجهك .. لتنام .. و أنّا لك ذلك ..
يتقلّب البروفسور خالد في منامه .. يقع على الأرض .. يقوم مفزوعاً .. يحاول أن يستوعب ماحوله .. هذه هي كنبات الصالة .. و الطاولة الصغيرة في المنتصف .. و الساعة المعلقة على الجدار .. و قد تحول لون عقاربها إلى لونٍ ناري .. تدور بسرعةٍ إلى الوراء .. همسات من حوله لايكاد يفهمها .. يقشعر بدنه .. يحاول أن يفكِّر مالذي حدث .. يُقسِمُ أنّه كان نائماً في غرفته .. على سريره .. في الطابق الثاني .. و هو الآن في الطابق الأرضي .. في الصالة .. والهواء القوي يدخل البيت من نوافذ الصالة الكبيرة .. المفتوحة على مصراعيها .. ماهذه الهمسات من حوله .. يكتم أنفاسه .. يصغي .. لغةٌ غريبة .. ”يشتوا .. ساروا .. أرتايب .. نوميد“ .. يردد هذه الكلمات كي لاينساها .. يلتفت إلى الساعة في رعب .. لاتزال تدور عكسيّاً .. بتسارع .. وهي تشتعل بنارٍ شديدة الإحمرار .. و صوت دقّاتها يملأ المكان .. يقوم بخوف .. يقصد مفتاح الإنارة .. يشعل النور .. ليصمت الحدث .. يعود كل شيء إلي ماهو عليه .. يمشي إلى الساعة .. يضع يده عليها .. تلسعه حرارتها .. يلمس الجدار الحجري .. فإذا هو باردٌ كالثلج .. يمشي رلي الطاولة .. يتناول دفتره و قلمه .. و يكتب ماحدث .. مارأى وماسمع ..
ماحدث ياتُرى .. كيف ينام على سريره في الطابق الثاني .. ليجد نفسه نائم علي الكنبة في الطابق الأرضي .. هل هناك تفسير لما حدث .. من المؤكّد أنه قام من سريره و نزل إلى الطابق الأرضي لينام على الكنبة .. هل سَرْنََمَ (سار وهو نائم)؟ .. هذا هو التفسير العقلاني الوحيد .. فهو يعلم يقيناً أنه نام في سريره .. ولم يستيقظ أبداً ليلة البارحة .. هل هو من الذين يسيرون وهم نائمون؟ .. أم يتخيل إليه ذلك .. يا الله .. الأحداث الغريبة في تسارع .. إحساسه بعدم الخصوصية في ازدياد .. و كأن هناك من يراقبه على الدوام ..
يجب عليه العمل بسرعة ..يجب فك لغز الساعة و علاقتها بالجدار الحجري .. يقصد مكتبه المنزلي الصغير .. يفتح جهاز الحاسوب .. يتفقد بريده الألكتروني .. لعل البروفسور هندرِك وجد حلّاً للغز الورقة المطويّة .. للأسف لم يصله أي بريد إلكتروني منذ أرسل صورة الورقة .. و كأن الزمن توقّف .. منذ يوم أمس ..
٥- ديجافو
يشعر البروفسور خالد بتعب شديد .. و بحاجة ملحة للنوم .. يرمق الساعة بخوف .. عقاربها تشير إلى الثانية عشر .. منتصف الليل .. يكاد يُجزِمُ أنها كانت كذلك عندما استيقظ فزعاً قبل قليل! .. هل توقف الزمن؟ .. هل عاد الزمن إلى الوراء؟ .. قبل أن ينام .. نقل ماكتبه مسبقاً في رسالةٍ إلكترونيّة .. وأرسلها إلى زميله البروفسور هندرِك .. على أمل أن يأتيه الرد بعد أن يستيقظ .. بتثاقل .. صعد لينام على سريره في الطابق الثاني .. يصعد درجات السلم .. هناك في الخلفية همسات ليلية .. تنطلق من ناحية الجدار .. يتردد صداها في أنحاء الصالة .. يُسرع الخطوات .. ويغلق باب غرفته .. ليرمي بجسمه المُنهك على سريره .. و يستغرق في سباتٍ عميق .. غير آبهٍ إلى الدقّات المتتالية التي تهز سريرة .. بذبذبات رتيبة .. دُم .. دُم .. دُم ..
يتقلب في منامه .. ليقع على الأرض .. و ينتفض فزِعاً من نومِه .. على دقّات الساعة الشيطانيّة .. و التي لاتزال عقاربها تُشير إلى منتصف الليل .. يقوم فزعاً .. يعيد التفكير في لحظته .. مهلاً .. لقد مرّ عليه نفس هذا الإحساس .. ماهذا؟ .. لقد شاهد هذا من قبل .. هل أختبر عيش لحظاتٍ عاشها من قبل؟ .. صداعٌ رهيب .. خوف يملء وجدانه .. يسحب جسمه سحباً إلى خارج البيت .. يركب سيّارته .. وينطلق بها إلى مكتبه في الجامعة .. يفتح مكتبه .. يقصد الكنبة الطويلة .. ويرمي جسده عليها .. لينام ..
في الصباح .. يتصل بصديقه الدكتور حمد .. يطلب منه أن يوافيه في مكتبه .. مصطحباً معه قدحاً كبيراً من القهوة الثقيلة .. يجلس الصديقان وجهاً لوجه .. و يحكي البروفسور خالد لصديقه ماحدث .. لعلّه يجد تفسيراً لذلك .. يقف الدكتور حمد مفكِّراً .. يمشي لناحية النافذة الزجاجية الكبيرة .. يستقبلها و هو ممعن في التفكير .. يلتفت ناحية البروفسور خالد و يقول .. ”تلخيصاً لما أخبرتني به .. كنت في حالة شديدةٍ من الرعب .. أحسست بأن هذا الحدث أو الموقف قد مرّ عليك من قبل .. أو أنّك تُعيد اختباره من جديد “ .. ”نعم هذا صحيح“ .. يرد البروفسور خالد .. ”ديجافو .. هذه حالة ديجافو“ .. عاقداً حاجبيه يستفسر خالد ”ديجافو .. ماذا؟“ .. ” نعم“ يسترسل دكتور حمد .. ”هذا مصطلحٌ فرنسي يعني .. ديجافو .. شوهد من قبل .. و هي حالة طبيعية يمر عليها ٧٠٪ من الشباب .. حيث يشعر الإنسان أن هذا الموقف مرّ عليه من قبل .. أو أن هذا المكان غير غريب عليه و قد قصده من قبل .. أو أن هذا الشخص قد رآه و تحدّث إليه من قبل“ .. ”وأنت بحكم الظروف التي تمر عليها .. فإنك تعتقد أنّك تعيش الحدث أكثر من مرّة .. و في الواقع .. بسبب الرعب الكامن في نفسك .. فإنّ الدم يصل إلى الفص الأيمن من المخ .. قبل الفص الأيسر .. فيستوعب الفص الأيمن الحدث .. قبل أن يستوعبه الفص الأيسر .. فيحسب الفص الأيسر أن هذا الحدث قد شوهد من قبل .. و هو غير ذلك“ .. ”أرجو أن يكون هذا تفسيراً علميّاً منطقياً لما يحدث“ .. ”شكراً دكتور حمد .. لم أفكر في ذلك أبداً .. و لكني أعتقد أن ما يحدث هنا هو أكبر من ذلك .. و أن قوىً خفيّة بدأت تلعب لعبتها معي“ ..
هل هذه حالة ديجافو كما حلّلَها دكتور حمد؟ .. أم أن قوى خفيّة بدأت تمارس لعبتها القذرة مع البروفسور خالد؟ .. هل بالفعل توقّف الزمن؟ .. أم أنّ الزمن يعيدُ نفسَه؟ .. أسئلةٌ لاتزال تبحث عن إجابةٍ منطقية لما حدث .. وماسوف يحدث ..
٥- عيون المدينة
البروفسور ”هندرِك“ رئيس قسم اللاهوت في جامعة لوسيان بلاجا في سيبيو في مختبره الواقع في سرداب المبنى القديم. لا يزل مستيقظاً ولم يداعب النوم عينيه منذ وصلته رسالة البروفسور خالد. يحاول فك ألغاز الرسالة وسبر أغوارها. هناك مخطوطات قديمة على الطاولة الحجرية، يتوسطها كتاب ضخم ذو ورق قديم يعلوه الغبار. البروفسور هندرك يقرأ من الكتاب ويقارن ماقرأه مع مخطوطة تلو أخرى، حتى توقف عند إحداها. يلف المخطوطة القديمة بحرص، يلتفت حوله ليتأكد من أنه غير مراقب، ويدسها داخل معطفه ويمضي قدماً مغادراً المختبر.
”بروفسور خالد، أنا البروفسور هندرك، أرجو حضورك حالاً مصطحباً الورقة التي وجدتها في الساعة إيّاها. أسمع تأكد من إزالة الساعة من الجدار إيّاه قبل قدومك“. تلبية لتعليمات هندرك حسب المكالمة السريعة التي تمت بينهما، يغادر البروفسور خالد مكتبه متوجهًا إلى البيت، بهدوء وبدون تفكير، يزيل البروفسور خالد الساعة من الجدار، يفتحها ليحصل على الورقة من بين تروسها الصدئة، يعيد الساعة لوضعها الطبيعي ثم يحملها إلى صندوق سيارته. يغادر سريعاً إلى المطار علّه يحظى برحلة توصله إلى بلدة سيبيو الرومانية القديمة في أسرع وقت، وكله أمل في العثور على مفتاح اللغز ومعرفة أسرار الساعة والجدار.
البروفسور هندرك في سيارته منطلقًا إلى منزله، الشارع فارغ تمامًا على غير العادة. ظلام دامس وقد اختبأ القمر خلف غيمة كبيرة استحوذت على جُل نوره. تخترق سيارته نفق جبل فاجاراش على أطراف سيبيو، حيث البيوت القديمة والشوارع الملتوية. تخرج السيارة الصغيرة من النفق، تتهادى ببطء عبر الشارع الضيق الذي تحيط به المنازل الكئيبة من الجهتين. تعلو كل مبنى فتحات التهوية الغريبة التي تبعث الرعب في قلب كل من يخترق هذا الشارع والتي تدعى ”عيون المدينة“. يتولد لدى هندرك احساس غير مريح، إحساس بأنه مراقب، إحساس بأنه مكشوف، ويسمع بين أذنيه وشوشات وهمسات تزيد رعبه وترفع نسبة الأدرينالين في دمه. ”ماذا يفعل ... هندرك .... هاهاهاها ... عليكم به ... الآن ... هاهاهاها ... راقبوه ... استلم ... المخطوطه ...“.كلمات كثيرة متداخلة تتردد في وسط جمجمته المشحونة، ليزيد الرعب في قلبه، ويزيد سرعة سيّارته علّه يقطع هذا الجزء من المدينة ويصل إلى بيته سالمًا. يرمق عيون المدينة والتي يكاد يقسم بأنها تتبعه، حيث يراها تلمع بدموع نارية، تنعكس صورة سيارته عليهاكلما عبر أمام إحداها وكأنها عيون حية، تغلفها طبقة سائلة من الدموع الدامية. تنتهي أزمة البروفسور هندرك بمجرد بلوغه آخر الشارع المرعب. يلتفت إلى مرآة السيّارة ليرى الشارع المظلم من خلفه وقد بدأ النور الأحمر الذي يشع من عيون المدينة في الخبو رويدًا رويدًا حتى عاد الظلام يكسو الشارع من جديد. وتتناقص الأصوات في رأسه حتى تختفي هي الأخرى. يتنفس البروفسور هندرك الصعداء. يوقف سيارته أمام منزله ويخرج منها مسرعًا ليدلف من باب المنزل، يقفله عدة مرّات ويلقي بجسده المنهك على أقرب كرسي ويغلق عينيه ليستغرق في نوم عميق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق