في ليل شتاء حزين زادته برودة كانون كآبةً وقتامةً، خرج داني من قريته الصغيرة بعدما تم تدميرها على يدي حكومته المستبدّة، تاركًا خلفه أكوامًا من الإسمنت تغطي أكوامًا من الأجساد. خرج وفي قلبه خوف المصير وغضب الثأر ولوعة الفراق. خرج غير عالمٍ بما سيحدث وما سيكون. حتى دخل الغابة وقد أخذ منه الإعياء كل مأخذ، فجلس مستندًا على جذع شجرة عظيمة ونام.
أرسلت الشمس أشعتها الذهبية إلى أرجاء الكون الفسيح غير عابئة بمدينة تُدَمَّر أو أرواح تُقتل، فهي تمارس طقوسها اليومية التي لا تتغير منذ خلق الله الأرض وما عليها. يفتح داني عينيه لتنتشله الحقيقة المفزعة من أحلامه الجميلة التي كان يخوض غمارها قبل قليل. ينظر إلى ماحوله من أشجار خضراء ويصغي إلى أصوات زقزقة الطيور التي لا يزال يكدِّرها صوت القذائف التي لم تهجع طيلة ليلة البارحة. يرمق قدميه العاريتين وقد اكتست بطبقات من الرمال والأعشاب والحصيّات التي لم يعرها بالًا ليلة البارحة لعظم الحدث وضخامة المأساة. تُعيده الذاكرة إلى أحداث الأيّام الماضية عندما كان يُجَهِّزُ حقيبته ويرتب أغراضه التي سوف يأخذها معه في سفره المشؤوم. فقد كان يخطط للذهاب إلى أرض الفرص والأحلام لإتمام دراسته الجامعيّة. فطائرته تغادر يوم غدٍ وهو الآن يقبع في غابة عاري القدمين. يضع يده في جيبه ليجد جواز سفره المختوم بتأشيرة الدراسة في أفضل جامعات العالم والتي أعطته فرصة للدراسة بها لتفوقه في دروسه و لحصوله على درجات عالية في اختبار الذكاء الذي قام به فرع الجامعة في بلاده. يخرج جواله من جيبه ليزداد فرحًا بوجود إشارة ضعيفة تمكنه من الاتصال بهاتف سفارة البلد الحُلُم المكتوب في أسفل التأشيرة. يتصل ويتلقى الرد الإيجابي من المسئول العلمي بأنهم يرحبون به وسوف يساعدونه على السفر في الموعد المقرر على أن يأتي للسفارة في أسرع وقت.
يشحن الأمل خلايا جسده المنهك بطاقةٍ هو في حاجة إليها، يقوم ويمضي في اختراق الغابة عله يصل إلى الطريق الموجود على الطرف الآخر. يمشي عاري القدمين، عجِل الخطوات وقد ملأ قلبه الأمل. قبل حلول الظلام كان داني يمشي على قارعة الطريق آملًا بوصول من يقله إلى العاصمة ليلجأ إلى سفارة البلد الحلم قبل بزوغ فجر الغد. هناك سيارة قادمة، يطلب من سائقها أن يساعده في الوصول إلى العاصمة، يستلقي في المقعد بجانب السائق، لتنطلق الشاحنة الصغيرة به إلى حيث يريد. ترتاح أطرافه وتهجع مفاصله ويغط في نوم عميق بعد أن اخترق الغابة في ثمان ساعات وهو عاري القدمين.
يوقظه السائق طالبًا منه النزول فقد وصل إلى مشارف العاصمة التي تعج بنقط التفتيش لتردى الحالة الأمنية في البلاد. نزل داني وواصل السير متجنبًا نقاط التفتيش إلى أن وصل إلى مبنى السفارة في منتصف الليل تقريبًا. يطرق الباب الرئيس ليأتي إليه قائد الحرس الذي كان يتوقع وصوله ويُدخِله إلى داخل السفارة حيث تنتظره ممرضة في غرفة علاج صغيرة. تفحصه وتضع قدميه في إناء ماءٍ ساخن وتقوم على علاج قدميه وتتركه لينام.
داني أمام مكبر الصوت يلقي كلمة الخرِّيجين بعدما أنهى دراسته الجامعية بامتياز. «الأقدام العارية» كانت عنوان كلمته التي أخذت الحضور في رحلة كفاح تضمنت تفاصيل حياته منذ مولده في إحدى قرى ولايات الإتحاد الإمريكي وحتى تخرجه في هذا اليوم من جامعة الإتحاد المَكَّي. مشيرًا إلى حياته من خلال الأرض التي يمشي عليها، بدءًا بملمس سجادة منزله الوثيرة والطريق الترابي خارج منزله والغابة التي تقبع غير بعيد من قريته مرورًا بأرضية السفارة الباردة وأرضية الطائرة التي أقلّته لتحقيق حلمه قبل سنوات أربع وانتهاءً بمسطحات الجامعة الخضراء وأرضيات الفصول الدراسية الرخامية وأرضية مسرح التخرج.
ينهي كلمته ويمشي بقدمين عاريتين إلى منصة الخريجين وسط تصفيق الجميع الذين قاموا بخلع أحذيتهم ليقضوا بقية الاحتفال بأقدام عارية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق