السبت، 30 أغسطس 2014

الكناري

مرتاح‭ ‬في‭ ‬سكنه‭ ‬الفسيح‭. ‬يأتي‭ ‬إليه‭ ‬رزقه‭ ‬بدون‭ ‬تعب‭. ‬حرٌّ‭ ‬طليقٌ،‭ ‬يفرد‭ ‬جناحيه‭ ‬ويقصد‭ ‬أي‭ ‬زاوية‭ ‬يرغب‭ ‬الذهاب‭ ‬إليها‭. ‬جو‭ ‬عليل‭ ‬طول‭ ‬أيّام‭ ‬السنة‭. ‬ينام‭ ‬أنّا‭ ‬أراد‭ ‬ويصحو‭ ‬متى‭ ‬ماشاء‭. ‬لارقيب‭ ‬ولاعتيد‭. ‬سعيدٌ‭ ‬طوال‭ ‬سنين‭ ‬عمره‭ ‬الرتيبة‭ ... ‬حتى‭ ‬بدأ‭ ‬الروتين‭ ‬ينقض‭ ‬على‭ ‬رقبته‭ ‬ويكاد‭ ‬يمنع‭ ‬عنه‭ ‬الهواء‭ ‬الذي‭ ‬يتنفسَّه‭. ‬

تتغير‭ ‬حياته‭ ‬بمجرّد‭ ‬دخولها‭ ‬عليه،‭ ‬ومشاركته‭ ‬سكنه‭ ‬وساعات‭ ‬يومه‭. ‬يفرح‭ ‬بها‭ ‬فرَحًا‭ ‬كبيرًا،‭ ‬فقد‭ ‬جاء‭ ‬من‭ ‬يغيِّر‭ ‬ساعات‭ ‬عيشه‭ ‬ويخلخل‭ ‬روتين‭ ‬حياته‭. ‬يعيشان‭ ‬أيّامًا‭ ‬من‭ ‬السعادة‭ ‬والتغيير‭ ‬حتّى‭ ‬إذا‭ ‬ماعاد‭ ‬شبح‭ ‬الروتين‭ ‬البغيض‭ ‬يعزف‭ ‬سينفونيّته‭ ‬الحزينة‭ ‬ليملأ‭ ‬بها‭ ‬صدورهم‭ ‬ويحسب‭ ‬عليهم‭ ‬أنفاسهم،‭ ‬تحوَّل‭ ‬سكنهم‭ ‬الفسيح‭ ‬إلى‭ ‬صندوق‭ ‬صغير‭ ‬وسجنٍ‭ ‬كئيب‭.‬

تحدثه‭ ‬عن‭ ‬الطيران‭ ‬إلى‭ ‬مسافات‭ ‬عالية،‭ ‬تفوق‭ ‬ارتفاع‭ ‬مسكنهم‭ ‬مئات‭ ‬المرّات‭. ‬تحدثه‭ ‬عن‭ ‬أنواع‭ ‬المأكولات‭ ‬الغريبة‭ ‬التي‭ ‬تتميز‭ ‬بطعمها‭ ‬المختلف‭ ‬وبطريقة‭ ‬الحصول‭ ‬عليها‭. ‬تحدثه‭ ‬بانقضاضها‭ ‬من‭ ‬علٍ‭ ‬علّها‭ ‬تفوز‭ ‬بتلك‭ ‬الدودة‭ ‬التي‭ ‬تسرع‭ ‬عائدةً‭ ‬إلى‭ ‬جحرها‭ ‬حيث‭ ‬الأمن‭ ‬والأمان‭. ‬تحدِّثه‭ ‬عن‭ ‬النهر‭ ‬الكبير‭ ‬الذي‭ ‬تحفه‭ ‬الأشجار‭ ‬المثمرة‭ ‬والتي‭ ‬تلجأ‭ ‬إليها‭ ‬في‭ ‬الأيّام‭ ‬المطيرة‭ ‬لترتاح‭ ‬على‭ ‬أحد‭ ‬فروعها‭ ‬وتقتات‭ ‬من‭ ‬ثمارها‭ ‬الطيِّبة‭. ‬تحدِّثه‭ ‬عن‭ ‬لذّة‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬قوتها‭ ‬بعد‭ ‬كد‭ ‬وتعب‭ ‬وتخطيط‭. ‬تحدثه‭ ‬عن‭ ‬لذة‭ ‬الإنتصار‭ ‬والتغلب‭ ‬على‭ ‬العدو‭ ‬ولذة‭ ‬الصبر‭ ‬لحين‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬المراد‭.‬

تحدثه‭ ‬بكل‭ ‬ذلك‭ ‬وهو‭ ‬يتخيل‭ ‬ماتقوله‭ ‬لأنه‭ ‬لم‭ ‬يسبق‭ ‬له‭ ‬الخروج‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الصندوق،‭ ‬فقد‭ ‬وُلِدَ‭ ‬وعاش‭ ‬سنين‭ ‬عمره‭ ‬فيه‭ ‬ولايفقه‭ ‬غيره‭. ‬عاش‭ ‬معها‭ ‬حُلُمًا‭ ‬جميلًا‭ ‬يتخيله‭ ‬في‭ ‬عقله‭ ‬وهو‭ ‬خائف‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يتحقق‭ ‬لأنه‭ ‬لم‭ ‬يجرب‭ ‬تلك‭ ‬المغامرات‭ ‬سابقًا‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬يعلم‭ ‬بوجودها‭ ‬أصلًا‭. ‬حدود‭ ‬تفكيره‭ ‬لاتخرج‭ ‬من‭ ‬جدران‭ ‬هذا‭ ‬الصندوق‭ ‬وحدود‭ ‬حريته‭ ‬لاترتفع‭ ‬أعلى‭ ‬من‭ ‬سقفه‭.‬

هل‭ ‬فهمت‭ ‬مغزى‭ ‬القصة؟‭ ‬فمعظمنا‭ ‬يعيش‭ ‬مثل‭ ‬طائر‭ ‬الكناري‭ ‬في‭ ‬الصندوق‭ ‬إيّاه‭. ‬لانحب‭ ‬التفكير‭ ‬خاج‭ ‬صندوقنا‭. ‬نأخذه‭ ‬معنا‭ ‬حيث‭ ‬ذهبنا‭ ‬لنجعل‭ ‬حدوده‭ ‬تساعدنا‭ ‬على‭ ‬تفسير‭ ‬الخوف‭ ‬الذي‭ ‬داخل‭ ‬أعماقنا‭. ‬جدران‭ ‬هذا‭ ‬الصندوق‭ ‬هي‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬التقاليد‭ ‬والعادات‭ ‬التي‭ ‬لانرغب‭ ‬بالتمرد‭ ‬عليها،‭ ‬خوفًا‭ ‬من‭ ‬مجابهة‭ ‬الآخرين‭. ‬دائمًا‭ ‬مانوافق‭ ‬الأغلبيّة‭ ‬في‭ ‬رأيها،‭ ‬كي‭ ‬لانكون‭ ‬شاذين‭ ‬عنهم‭. ‬لانقيم‭ ‬لرأينا‭ ‬أي‭ ‬اعتبار‭ ‬إذا‭ ‬ماكان‭ ‬مخالفًا‭ ‬للجمهور‭ ‬السائد‭. ‬وحرّيتنا‭ ‬محدودةً‭ ‬بسقف‭ ‬ذلك‭ ‬الصندوق‭. ‬إنها‭ ‬عراقيل‭ ‬بنيناها‭ ‬بأيدينا‭ ‬لتغلفنا‭ ‬من‭ ‬جميع‭ ‬الجهات‭. ‬


لنغير‭ ‬ذلك‭ ‬بإعادة‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬حياتنا‭ ‬والإطّلاع‭ ‬على‭ ‬الشعوب‭ ‬والأقوام‭ ‬الأخرى،‭ ‬فقد‭ ‬يكون‭ ‬لديهم‭ ‬من‭ ‬العلم‭ ‬مايساعدنا‭ ‬على‭ ‬تجاوز‭ ‬مصائبنا‭. ‬فالحكمة‭ ‬ضالة‭ ‬المؤمن‭ ‬أنّا‭ ‬وجدها‭ ‬فهو‭ ‬أحق‭ ‬بها‭. ‬فلنتحاور‭ ‬مع‭ ‬الآخر‭ ‬ولندلي‭ ‬بدلونا‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬الأمور‭ ‬ولنفتح‭ ‬الباب‭ ‬على‭ ‬مصراعيه‭ ‬لأبنائنا‭ ‬وبناتنا‭ ‬للحوار‭ ‬وترك‭ ‬الحرية‭ ‬لهم‭ ‬باختيار‭ ‬مايرونه‭ ‬مناسبًا‭ ‬لهم‭ ‬على‭ ‬قناعة‭ ‬منهم‭. ‬فكم‭ ‬من‭ ‬عادة‭ ‬خالفت‭ ‬الشرع‭ ‬وكم‭ ‬من‭ ‬رأي‭ ‬جانب‭ ‬الصواب‭. ‬لنفتح‭ ‬المجال‭ ‬للتفكير‭ ‬والتحليل‭ ‬ثم‭ ‬اختيار‭ ‬الحل‭ ‬وتحمل‭ ‬المسئولية‭.‬

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

قبل أن أكون

 قبل أن أكون يا ترى .. أين كنت قبل أن أكون؟ أكنت في عالم الذر بداية إلى أن كتب الله لأبي وأمي أن يلتقيا لأكون؟ نعم، لقد كنا أرواحا بلا أجساد...