الأحد، 5 يونيو 2016

السرُّود

سعد جالس في جمعة عائلية تضم جميع أفراد عائلته الصغيرة. قابع في ركنة الغرفة الطينية الصغيرة وباقي العائلة تحيط بشبّة النار يصغون إلى أحاديث أبيهم الشيقة وقصصه الكثيرة. سعد يرمقهم من بعيد، أبوه العجوز ذو السبعين عامًا يحكي قصةً قديمةً لأفراد عائلته وهو يحرك عُصَيّات (العبل) بعصًا صغيرة  ونظره مركزٌ على شبة النار. يكاد سعد يرى انعكاس أعمدة النار وهي تتراقص في عيني أبيه. الجميع مصغ بانتباه عجيب وقد خيّم عليهم هدوء وسكينة عجيبة. أمه الجميلة حصّة ترمق أباه واضعةً يدها  اليمنى على خدها وقد سرحت مع أبطال قصة أبا سعد، تكاد صفحة خدها تنير فضاء الغرفة الصغيرة.

سعد منعزل في ركنته المفضلة مفكرٌ في غد. قد استولت خططه على تفكيره وأخذته إلى قاعة الدرس في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن. خيم عليه رعب معادلات الرياضيات الكريهة وهي تحول الأرقام البسيطة إلى وحوش تكشر عن أنيابها وتجارب الكيمياء الخطيرة وهي تحرق ذلك المسحوق الأبيض الجميل وتحوله إلى كتلة من المواد السوداء اللزجة ذات الرائحة القوية. يتخيل شكله وقد أنهى دراسته في كلية الإدارة الصناعية والمنادي يذكر إسمه ليتقدم لاستلام شهادته وقد طار من الفرح. ياإلهي .. متى يأتي هذا اليوم الذي أحقق فيه أمنيتي وانهي فيه تعبي. يُرخي رأسه على المسند الذي بجانبه، يغلق عينيه ويغرق في سبات عميق. صوت أبوه في الخلفية وهو لايزال مسترسل في قصته وقد بدأ صوته يتقطّع .. سرُّود .. خَلال .. رطب .. تمر .. خخخخ .. 
يفتح سعد عينيه ليجد نفسه وحيدًا، النار لاتزال تتراقص وقد خلد الجميع للنوم. الغرفة الصغيرة مليئة بدفء لذيذ يقترب من النار ويمد رجليه قليلًا ليحظى بدفء عجيب. يتناول فنجانًا ويصب له قليلًا من القهوة التي لاتزال رائحة (قنادها) تملأ المكان. يسحب (سرود القدوع) ويفتح غطاءه ليجد فيهبسرة وتمرة. ينظر مرة أخرى ليتأكد من مايرى. نعم هناك رطبة بسرة صفراء قوية وتمرة واحدة وقد غطّاها الدبس بطبقته العاكسة الجميلة. سبحان الله كيف اجتمعت هذه المواسم جميعًا في سرُّود واحد ونحن في فصل الشتاء؟
يرتشف سعد رشفة من فنجانه ليستأنف حلم البارحة ويرى نفسه ببشت التخرج، يُغمض عينيه، يمد يده ويأخذ حبة واحدة من السرُّود العجيب. يضعها في فمه ويبدأ في مضغها ببطء. يرمي الطعامة في النار ويرتشف الرشفة الأخيرة من فنجانه ويضعه جانبًا. أصوات هتافات مزعجة، متحدث يتلوا أسماء زملائه، تصفيق و(لولاش)، موسيقى .. يفتح عينية ليرى مشهدًا عجيبًا.  سعد واقف ويده ممدودة تصافح أمير المنطقة وفي يده  ملف فخم من جلد غالي الثمن. يفتح الملف ليرى اسمه منقوشًا على شهادة التخرج. يحاول أن يستوعب اللحظة .. هذه حفلة تخرجه .. يالله .. ماذا حدث؟ كيف وصلت لهذه اللحظة؟ كيف اختصر الزمن خمس سنوات وانتهت إلى تحقيق هدفي الذي كنت أرغب في الوصول إليه سريعًا؟ ضحك .. وبدأ يندمج مع الحفل حتى إنتهى .
أخاه محمد يناديه من بعيد وهو يركض ناحيته ليعانقه ويبارك له وقد امتلئت عيونه بدموع الفرح بتخرج أخيه الصغير. ويأخذه إلى الخارج حيث أمه حصة وأخته منيرة ينتظرانه على أحر من الجمر. يأخذ معهم صورة قبل ذهابهم للسيارة التي تنتظرهم أمام موقع الحفل. 
سعد بجانب أخيه محمد وأمه أخته في الخلف والسيارة منطلقة تخترق الطريق المزدحم بسلاسة. سعد .. يفكر.. أين والده ولماذا لم يحضر لحفل تخرجه؟ أين أخته سارة وأخاه فهد؟ أمه في الخلف تبكي فرحة وحزينة وهي تقول (الله يرحمك يابومحمد .. ليت الله مطول في عمرك عشان تشوف ولدك سعد وهو متخرج من الجامعة). صدمة غير متوقعة! أبوي مات! ياالله .. ماقعدت معاه.. ماسولفت معاه .. انقطعت منه عشان المذاكرة وكلي أمل إني أعوض هذي الأيام بعد تخرجي! ياالله! يازين قعدتنا على شبة النار وهو يقص لنا قصصه الخرافية! يازين جمعتنا وكلنا حوله وهو يضحك! يازينه إذا زعل مني وجيته وحبيت راسه ودعا لي! هذا كله راح .. ماعاد يرجع خلاص!! ليطنب سعد في البكاء.
تررررن .. جوال محمد يرن. ألو .. من .. هلا سارة .. الله يبارك فيك .. هذا هو تبين تكلمينه. خذ .. هذي سارة تبي تبارك لك. هلا سارة شلونك يا اختي .. والله كان ودي انك معانا هذا اليوم .. ماعليه اسمح لي ياخوي .. تعرف زوجي مرتبط في دوامه وأنا معا هالعيال الله يصلحهم .. مبروك حبيبي وعقبال الوظيفة ان شاء الله .. يالله مع السلامة ..
ترررن .. هلا فهد .. شلونك .. وينك يالعضيد .. تخرج أخوك ولاتحضره مايصير .. شسوي حبيبي سعد .. تعرف التزام الدراسة والبعد ياخوي .. مبروك والله يوفقك.
العائلة مجتمعة في الغرفة الطينية الصغيرة. وسعد قابع في ركنه المفضل وهو يرمق عائلته الجالسة حول شبة النار. وقد نقص عددهم.  يركز على وجه والدته وكأنه يراها للمرة الأولى. يركز على أسفل شفتاها ليرى خطوط الزمن الغادر وقد ارتشف منها بعض حيويتها. هناك شعيرات بيضاء في مفرق رأسها. خدها الجميل الوضاء قد ذبل قليلًا ولم يعد كما كان. في صوتها نبرة حزن لم يعتاد عليها. حركاتها وردة فعلها أبطأ مما كانت. عدد الأدوية التي تتناولها قد ازداد.
يا إلاهي .. لقد اختصر الزمن الكثير من حياته التي لم يعشها. توفي والده وهو لم يجلس معه، تزوجت أخته وأنجبت وهو لم يسعد بصحبتها، سافر أخاه الصغير للدراسة وهو لم يلعب معه، كبرت والدته وبدأت تشيخ ،هو لم يشبع من حنانها وحبها. 
تقدم له والدته السرود العجيب مع فنجان من القهوة. يفتح غطاء السرود .. ويتناول البسرة، يأكلها وهو مغمض عينيه ويشرب من فنجان القهوة لتتداخل الأصوات في رأسه ويحس بخدر ليضع رأسه على المسند الذي بجانبه وينام.
سعد .. سعد .. تعال ياولدي .. تعال بينا .. لاتقعد لحالك .. يفتح سعد عينيه ويفركهما .. يغمض عينيه مرة أخرى ويفركهما. . عائلته لاتزال حول شبة النار والجميع ينظر إليه وقد أفسحوا له مكانًا بين والده ووالدته .. ليقوم باكيًا ويقبل رأسهما ويحضنهما .. الجميع كان هناك والده ووالدته، محمد وفهد، منيرة وسارة .. يقوم ويقبل رأس أخواته وأخوانه .. وهو فرح ليوقضه هذا الحلم المرعب من الركض إلى هدفه ليعيش الحياة بتؤدة وينساق عبر رحلتها بسعادة.

أرجو أن تعوا الدرس وتعيشوا حياتكم لحظة بلحظة ولاتستعجلون لاقتناص أهدافٍ قد تقلل من سعادتكم .. تحياتي ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

قبل أن أكون

 قبل أن أكون يا ترى .. أين كنت قبل أن أكون؟ أكنت في عالم الذر بداية إلى أن كتب الله لأبي وأمي أن يلتقيا لأكون؟ نعم، لقد كنا أرواحا بلا أجساد...