صغيراً كنت ... و لازلت ... رهبة أيام الإختبارات تحوم حولنا ... جميع الطلاب مشدودي الأعصاب ... الأهل يتابعونهم عن كثب ... الطرق الرملية فارغة من الحياة ... حيّنا الصغير يفتقد براءة الأطفال ... تكثر الممنوعات في هذه الأيّام ... هدوء شديد ...
تنعدم الزيارات ... الأهل مشغولون بتهيئة الجو المناسب لأبنائهم ... التلفزيون ممنوع ... اللعب في الخارج ممنوع ... قراءة المجلات ممنوع ... النوم الكثير ممنوع ... تزداد قائمة الممنوعات في هذه الأيام ... و تزداد وتيرة المراقبة ... ضغط نفسي شديد ... نبحث عن عذر نشغل أنفسنا به لكي نكف عن المذاكرة ...
يقوم أبي بتوفير لوازم البيت ... بالإضافة إلى بعض المأكولات التي لانحضى بها دائماً ... ترغيباً لنا في بذل المزيد من الجهد ... و قضاء وقت أكثر في المذاكرة ... أمي الحبيبة ... تبذل أقصى جهدها ... لخدمتنا ... بُغية المحافظة على وقتنا الثمين ... و لا يهنأ لها بال ... إلّا إذا أخبرناها بأننا قد أنهينا مذاكرة الكتاب كاملاً ... فتطلب منّا المراجعة مرّةً أخرى ... طلباتنا مجابة ... لاعذر لدينا في قطع المذاكرة ... أو التسلّل لجلب كأس من الماء ... أو كأساً من الشاي ... فقط كتب كتب كتب ... حتى نَمَلَّ منها ... و نرغب في أن يأتي الغد قريباً ... لننهي الإختبار ... و ننتهي هذه المعاناة ...
هذه السنة لدي إختبار شهادة ... فأنا على باب التخرج من الإبتدائية ... و الإنتقال إلى المرحلة التالية ... و ما أدراك ما اختبار الشهادة ... و كأننا سوف ندخل إلى ساحة معركة ... تحضيرات كثيرة ... و متطلبات أكثر ... علينا أن نحضر أصل حفيظة النفوس من والدنا ... لتعبئة استمارة الحصول علي رقم الجلوس ... تعبئتها بدِقَّة متناهية ... الأسم الرباعي ... و التأكد من عدم وضع "بن" بين إسمك و إسم أبيك إذا لم تكن موجودة في حفيظة النفوس ... و تاريخ الميلاد ... و معلومات أخرى كثيرة نكتبها بخط يدنا ... و وضع صورة شخصية حديثة ٥ سم في ٨ سم ... و إرفاق عدة صور مشابهة ... بعد الإنتهاء تتم مراجعتها من المُشرف ... و يتم التصديق عليها للتأكيد بأن جميع المعلومات صحيحة ... و يجب أن نوقع عليها و لاننسى صيغة التوقيع ... حيث أننا سوف نوقع على استلام رقم الجلوس و الذي يجب أن يكون مطابقاً للتوقيع الأصل ... و ذلك بعد رفعها إلى وزارة المعارف ... و إعطائها رقماً هو رقم الجلوس للإختبار ... متطلبات تزرع في أنفسنا الرهبة و الرعب ... و تولد لدينا الإحساس بصعوبة ما نحن مقدمين عليه ...
أنهيت متطلبات التسجيل ... و حصلت على رقم الجلوس ... و إسم المدرسة التي سوف تكون مقر الإختبار ... سعيد لأن المدرسة ليست بالبعيدة من مدرستي الحالية ... و كذلك جدول الإختبارات ... الذي يحتوي على وقت بدأ و إنتهاء اختبار كل مادة ... حيث وزعت جميع المواد على فترة أسبوعين ... المواد الصعبة تكون وحيدة ... و البسيطة تكون مادتين في اليوم ...
في اليوم الموعود ... توقظني أمي مبكراً ... لكي أحضى بمراجعة مادة الإختبار قبل الخروج من البيت ... إفطاراً ملكي ... بيض و جبن و عسل ... إفطارٌ لانحصل عليه في الأيام العادية ... تناولني أمي ريالين كمصروف لهذا اليوم ... مبلغ كبير جدّاً بالقياس إلى نصف الريال الذي نحصل عليه عادةً ... تودعني حبيبتي و تطبع قبلةً على جبيني ... و تدعو بدعاءٍ طويل ... أخرج بعده مغادراً إلى مدرسة أبن الهيثم ... مقر الإختبار ... و أمي تلاحقني بنظراتها حتى اختفيت خلف بيت جارنا جمعة ... أمشي بسرعة ... أرغب في التعرُّف على المدرسة و معرفة موقع غرفة الإختبار التي سوف أجلس فيها ... قبل الساعة السابعة ... موعد بدأ الإختبار ... يمنعنا حارس المدرسة من الدخول إلى الفصول الدراسية ... فأمكث في ساحة المدرسة الكبيرة ... أدور في الساحة ... ساحة مغطاة بالنجيل الأخضر ... و توجد مراجيح في إحدى زواياها ... أركض ناحيتها ... و أستمتع باللعب بالمرجيحة ... ناسياً ضغط الإختبار و أدخل عالم الأحلام ... عمري أصغر قليلاً من الثانية عشر ... عمر حائر بين الطفولة و المراهقة ... أحب بأن أقوم بما يقوم به الكبار ... و لكن لايزال بداخلي ذلك الطفل الصغير ... المحب للحرية ... الكاره للإملاءات ... يحب أن يفعل مايشاء ... و يكره أن يتقيد بقوانين و عادات تعيق حركته ... و تؤجل أحلامه ... ترررررن ... ترررررن ... يوقظني جرس المدرسة من أحلامي ... و يعيدني إلى واقعي ... أتنبّه إلى الطلاب الكثيرين في الساحة ... و الذين لم أحس بتواجدهم ... الكل يركض إلى المكان المعين له حسب رقم جلوسه ... سعيد لأن طاولتي في الصف الأول ... أجلس بهدوء ... قابضاً كَفَّيَّ ... أضعهما على الطاولة ... يدخل مدرِّس لم أره من قبل ... في يده مظروف كبير مختوم ... يقف في مقدِّمة الفصل ... و يمطرنا بتعليمات كثيرة ... ثم يمر علينا ليتأكد من أرقام جلوسنا ... ثم يقف في انتظار أن يرن جرس بدأ الإختبار ...
تررررن ... يفتح المظروف الكبير ... و يبدأ في توزيع أسئلة الإختبارات ... واضعاً إيّاها على طاولاتنا بالمقلوب ... بعد أن ينتهي من توزيع الأسئلة على جميع الطلاب ... يأذن لنا بالبدأ في الإجابة ... نكتب على مقدمتها رقم الجلوس فقط بدون أسماء ... و نبدأ بالإجابة على الأسئلة على الورق الحجازي الذي جلبناه معنا ... الأسئلة كانت متوسطة الصعوبة ... أنهي الإجابة و أراجعها أكثر من مرّة ... أسلمها للأستاذ ... و أعود إلى مقعدي إلى أن ينتهي الوقت ...
الفسحة بين إختبار المادتين طويلة ... أستمتع أثنائها بشطيرة جبن بالمربى و قارورة بيبسي باردة ... لأعود بعدها إلى مقعدي ... و نبدأ إختبار المادة الثانية ... أعود بعدها إلى البيت فرحاً ... لأبدأ المذاكرة من جديد و هكذا حتى ينتهي آخر يوم من الإختبارات ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق