الجمعة، 8 مارس 2013

أهمِت

أهمِت ... مواطن تركي ... ولِدَ و ترعرع في ربوع قريته التركية الصغيرة ... عائلته من محبّي الرئيس كمال أتاتورك ... و من مناصري التغريب ... لذا ... فهو لم يتلقّى أي تعليم إسلامي ... و لم تتم تربيته حسب تعاليم الدين الإسلامي الحنيف ... البتّه ...

يكتب بالحروف اللاتينية ... يحب الموسيقى الغربية ... و يعيش حياته وفق مبادئ غربية بحتة ... متحرِّر ... علماني ... و مع ذلك فهو عقلاني حتّى النخاع ... لا يعمل إلّا بما يؤمن به ... يحلِّل ما يسمع و ما يرى ... و لا يقلد ... عندما بلغ الأربعين من العمر ... بدأ ضجيج حياته يهدأ ... و تباطأت أحداث عيشه ... و خف رتم نشاطاته ... و بدأ الفراغ يتخلل تفاصيل حياته ... حتى أصبح عنده وقت مستقطع ...  يجلس فيها على كرسيه المريح ... و يعمل ... لاشيء ... لا شيء على الإطلاق ... فقط يتأمل ...  يفكِّر ... و يجتر أحداث حياته ... 

أحس أهمِت أنه في حاجة إلى تجديد حياته ... إلى نزع الروتين منها ... و إيجاد صخبٍ ينتشله من هذا الملل الذي احتواه ... فقرّر الرحيل عن قريته ... و البحث عن عمل في إحدى مدن تركيا الكبيرة ... فذلك كفيل بتغيير حياته من جذورها ... ليبدأ بداية طازجة ... يتحكم في مدخلاتها ... لتنتهي إلى مايرغب به أن يكون ... فقرَّر شد الرحال إلى اسطنبول ... إلى زميله القديم موسى... الذي لم يره منذ أكثر من عشرين سنة ... علّه يجد لديه مبتغاه ...

لأوّل مرةٍ في حياته ... يستيقظ مبكِّراً قبل شروق الشمس بأكثر من الساعة ... يخرج من منزله حاملاً حقيبةً صغيرة ... قاصداً محطة الحافلات ... علّه يحظى بمقعد في الرحلة المغادرة إلى اسطنبول ... يمشي في الطريق ... و ظلّه بجانبه يتبعه ... يتأمل في الشارع ... و الأشجار المحيطة به ... و كأنها المرّة الأولى التي يراه بها ... هدوء مطبق ... هواء عليل ... نسماته الباردة تداعب شعره الجميل ... نجوم لامعة تحتل صفحة السماء ... زقزقة العصافير تعطي هذا المنظر خلفية موسيقية عذبة ... يستشعر أهمِت هذا الجمال ... لتنتابه حالة اطمئنان لم يشعر بها قط ... حالة صفاء روحي و ذهني لم يختبرهما سابقاً ...

في البعيد ... يلوح له مسجد القرية الوحيد ... مسجد قديم بقدم تاريخ القرية ... يقف شامخاً و كأنه رافعاً إصبع منارته الوحيد متشهِّداً ... إنارةٌ قويةٌ مسلطةٌ على طول ارتفاع المنارة ... منظر مهيب ... عمق التاريخ صامداً ... لم تهزُّه عَلمنة أتاتورك ... و لم تغيره حركة التغريب ... يدعو الجميع ... إلى الله ... بغض النظر عن توجهاتهم ... و انتماآتهم ... "الله أكبر ... الله أكبر" ... يصدح أذان الفجر بصوت شجي  ... مُكمِّلاً حالة الصفاء النفسي الشامل ... التي انتابت أهمِت منذ خروجه من منزله ... "الله أكبر ... الله أكبر" ... يرفع أهمِت نظره إلى السماء ... و قد اقشعر جسده ... فهذه أوّلُ مرةٍ يسمع فيها هذا النداء ... بهذا الجمال و هذا الصفاء ... "أشهد أن لا إله إلاّ الله ... أشهد أن لا إله إلاّ الله" ... تدخل هذه الكلمات في أذن أهمِت لتستشعرها كل خلية في جسمه ... "أشهد أن محمداً رسول الله ... أشهد أن محمداً رسول الله" ... يدخل أهمِت حالة وعي نفسي عميق ... يحس بهذه الكلمات تخترق وجدانه ... و تفكيره ... "حي على الصلاة ... حيى على الصلاة ... حيى على الفلاح ... حيى علي الفلاح" ... يا الله ما هذا الجمال ... "الصلاة خير من النوم ... الصلاة خير من النوم" ... هذه الكلمات تؤثر تأثيراً عميقاً فيه ... مع العلم أنّه لا يعرف معناها ... " الله أكبر ... الله أكبر" ... سبحان الله ... "لا إله إلاّ الله" ... جذبت هذه الكلمات أهمِت إلى المسجد ... يخرج المؤذن ليراه واقفاً عند باب المسجد ... يحمل حقيبته و يقوده إلى الداخل ... ليتوضاء ... 

بعد شروق الشمس ... يخرج أحمد من باب المسجد ... بوجه مملوء إيماناً ... و نفس مطمئنّة ... ليعود أدراجه إلى منزله ... و قد وجد ضالته ... و صفاء نفسه ...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

قبل أن أكون

 قبل أن أكون يا ترى .. أين كنت قبل أن أكون؟ أكنت في عالم الذر بداية إلى أن كتب الله لأبي وأمي أن يلتقيا لأكون؟ نعم، لقد كنا أرواحا بلا أجساد...