بيوت مبنية من الخشب البالي و الصفيح ... طرقٌ رملية ... بئر ماء قصيّة ... لاتوجد دورات مياه ... عندما تدخل القرية ... يواجهك شحوبها ... و ارتكاز الغبار في أيّام رياحها العاتيه ... تكاد تكون مهجورة في أوقات الظهيرة ... و لكنها ... في ليال شتاءها ... شيءٌ آخر ...
ينزل باسل من عتبات طائرته الخاصة ... يفتح له السائق باب السيارة ... و يأخذه إلى قصره على شاطئ البحر ... باسل وحيداً في المقعد الخلفي ... واضعاً رأسه على زجاج النافذة ... يفكِّر في حياته ... كيف عمل و كدّ حتى توصّل إلى ماهو عليه الآن ... كيف كافح و قاسى ليحصد نتيجة صموده و مثابرته ... يا الله ... كم هو تعب الآن ... كم هو بحاجة إلى الراحة ... كم هو بحاجة لأذن مصغيه ... تتركه يبيح مكنونات نفسه ... ليغسلها من ترسبات استوطنتها ... لتحفّه آثارها القميئة ... كلما صار وحيداً ...
بينما هو يفكر ... إذا برجل يمشي على الرصيف ... رجل عادي ... يبدو عليه من سكان إحدى القرى الصغيرة ... يرتدي ثوباً بسيطاً ... شماغاً أحمر على رأسه ... قد أرجع طرفاه من الأعلى و إلى الخلف ... لبسةً تعرف في الخليج بال ”تشليمبو“ ... ”زبيريةً“ قديمة على قدميه ... يمشي على جانب الطريق ... على أقل من مهله ... يطلب باسل من السائق أن يخفف السرعة ... و يمشي بمحاذاة الرجل ... يتمعن في مشيته و في وجهه ... ”قف ... قف“ ... يأمر سائقه بالوقوف ... ينزل ... يتبعه و ينادي عليه ... ”فالح ... فالح“ ... يلتفت الرجل قائلاً ... ”نعم ... هل من خدمة“ ... يواصل باسل ”فالح بن سعيد؟“ ... ”نعم أنا هو“ يرد عليه الرجل مسترسلاً ... ”هل أعرفك؟“ ... ”فالح ألم تعرفني ... أنا سامر ... مدرسة الفلاح ... النوخذا “... ”مرحبا ... هلا و غلا بالنوخذا“ ... يتعانقان ... و كل منهما فرح بالآخر ... يدعو باسل فالحاً للركوب معه بالسيّارة ... ”ما شاء الله ... تبارك الله ... كيف حالك يا باسل“ ... ” الحمدلله“ ... ردّ باسل و هو فرح بلقائه فالح بعد أكثر من عشرين سنة ... ” كما ترى ... حالتي المادية أكثر من ممتازة ... و لكني لا أزال أشتاق لأيام الثانوية ... مزحنا الدائم ... و ابتساماتنا ... و سعادتنا ... آه ... ما أجملها من أيّام“ ...
يعيدون شريط حياةٍ ماضية ... و ذكريات جميلة ... عندما كان همّهم الأوّل ... أن يكونوا معاً ... يتحدّثون ... و يمزحون ... يعاضدون بعضهم بعضاً ... إذا اصطكّت على أحدهم ظروف دنياه ... و تطرّقت الكآبة إلى نفسه ... لجأ إلى الآخر ... لينير له دهاليز أعماقه ... يفتح نوافذ عزلته ... و يطرد شبح الكآبة من غرفات فكره ... حتى ينسل الحزن خيطاً خيطاً ... ليملأها بورود الثقة ... و زهور الفرح ... و لا يفكّه إلّا و ابتسامته قد ملأت وجهه ... و أنارت نفسه ...
سبحان الله ... هذا ماكان باسل يبحث عنه ... مع أحد يفضفض له ... و يبث له مكنونات نفسه ... ليكون محبس الأمان ... الذي يحتاجه الإنسان ليعيش ... و يواصل في حياته ... بعد نصف الساعة ... تقف سيارة البنتلي أمام بيت خشبي قديم ... يترجّل منها الصديقان ... ”إذهب ... إرجع لي غداً في الساعة التاسعة صباحاً“ ... باسل متحدِّثاً إلى سائقه الخاص ... و يدخل مع فالح إلى مجلسه الخشبي الصغير ... الذي طالما جلسوا فيه أيام شبابهم ... لقد وجد باسل ضالته ... لينعم بالسمر مع صديق عمره ... و يختصر سرد سنين مضت ... في ليلة واحدة ... طافوا فيها على جميع محطّات حياتهم ... حلوها و مرِّها ... ليخرج باسل صباحاً ... يركب سيارته ... و قد تخلص من منغصات كثيرة كانت تلوح له ... يلوّح بيده إلى فالح ... ”إلى الغد“ ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق