الثلاثاء، 5 فبراير 2013

مَنْكْ

مرتّب ترتيباً شديداً ... لدرجةٍ مُزعجة ... روتيني حتى النخاع ... يتشائم عندما تتغير جزئية من روتينه اليومي ... مهما كانت ... لديه هاجس نظافة ... هاجس قاتل ... لايلمس أيّ شيء بدون تعقيم ... لا يصافح الأيدي ... غير اجتماعي ... و لكنه يتّقد ذكاءاً ...

 رعد رعد الرعد ... هذا هو إسمه ... نفس الحروف متكرِّرة تكراراً مملاّ ... كأحد أيّامه ... و قد نابها شغفه بالترتيب ... حتى قبل أن يولد ... فقد قرّر والده تسميته بهذا الإسم منذ أن حملت به والدته ... يعيش وحيداً في شقةٍ صغيرة ... في إحدى عمارات مدينة "الخبر" ... حي البندرية ... هو الوحيد من عائلته الذي لايزال على وجه البسيطة ...

هذا الأسبوع يُتِمُّ عامه الرابع و الأربعين ... و قد كافأ نفسه بشراء ثوبٍ أبيض جديد ... غترة شماغ ماركة "البسام" ... و حذاء أسود لامع ... إذا فتحت دولاب ملابسه ... ترى ثياباً بيضاء معلقة بترتيب شديد ... جميعها نفسل التفصيل ... و نفس الإتجاه ... على يسار كل ثوب شماغ أحمر ... و أسفله حذاء أسود لامع ... المسافات بين المجموعات متساويه ... تستطيع قياسها بالمليمتر ... 

رفوف الحمّام و المطبخ ... تحمل جميع أنواع المنظفات و المعقمات ... و أجهزة تعقيم الهواء تجدها في كل غرفة ... هوسٌ مرضي بالنظافة و الترتيب ... و لكن هذا هو رعد منذ أن كان صغيراً ... و حتى صار رجلاً ... لهذا لم يتزوّج ... و لم يفكِّر بأن يكون أباً ... لأنّ وجود غيره معه في السكن ... سوف يُزعج وتيرة روتينه اليومي ...

يعمل رعد في أحد البنوك الكبيرة ... كمدير لقسم التدقِّيقٍ ... فهو معروف بتركيزه الشديد ... و اكتشافه لجميع أنواع التلاعب المُمكِن و الغير مُمكِن ... التي يقوم بها الموظفين لسرقة الأموال ... و في أحيان كثيره تستعين به البنوك و المؤسسات الأخرى ... عند اكتشاف اختلاس أو الشك في تلاعبات ماليّة ... كذلك تستعسن به وزارة الماليّة كلّ عام ... لمراجعة حسابات الوزارات المقدَّمةِ إليها ... قبل الموافقة على الميزانية العامَّة ... مشهور بلقبٍ يحبُّه كثيراً ... "مَنْكْ" ... إشارةً إلى المسلسل التلفزيوني الشهير الذي يحمل نفس الأسم ... لمخبر بوليسي يجد حلّاً لجميع الجرائم الغريبة ... بالرغم من هوسه الشديد بالنظافة و الترتيب ...

دليلة ... موظَّفةٌ جديدة في قسم التدقيق ... في العشرينات من عمرها ... عشوائية ... غير مرتَّبةً البتَّه ... تطلب من رعد أن يعيرها الجزء الرابع و الأربعين من مسلسل "مَنْكْ" ... لأنه الجزء الوحيد الذي لم تشاهده بعد ... يوافق رعد على مضض ... فهو لايحب أن تنقص مجموعاته الكاملة ... و لا يحب أن يرى خللاً في ترتيبها ... فضميره يؤنبه عند اختلال جزئية مهما كانت صغيرة من روتين حياته اليومي ... و مشاهدة أقراص الفيديو مرتّبةً و كاملةً على الرف ... جزءٌ من هذا الروتين ...

تمضي أيّامٌ عدة ... و دليلة لم تُعِدْ قرص الفيديو الذي استعارته ... رعد غير مرتاح هذه الأيّام ... لأنّه علم أن دليلة مريضة ... و قد تم إدخالها إلى المستشفى ... و مجموعته لايزال ينقصها قرص واحد ... يذهب إلى المستشفى بعد انتهاء الدوام ... و لكنه لايجرُء على دخوله لخوفه من الأمراض ... يُقرِّر أن يشتري قرصاً آخر ... و ينسى القرص الذي استعارته منه دليلة ... 

يعود إلى شقته بعد أن عرّج على محل الفيديو القريب ... و قد اشترى ما يُكمِلُ مجموعته ... يدخل الشقة ... يتجه إلى رف الأقراص ... ينزع الغلاف البلاستيكي من الجزء الرابع و الأربعين من مسلسله المفضّل ... و يسد به ذلك الفراغ المُقلِق ... لينام تلك الليلة قرير العين ...

هناك 3 تعليقات:

  1. هل هذه القصه واقعيه ام خيال صرف. في كلتا الحالتين ابدعت في الوصف والايجاز. بوركت.

    ردحذف
  2. القصة مبنية على المسلسل التلفزيوني الأمريكي "مَنْك" و الذي يقوم ببطولته الممثل اللبناني الأصل توني شلهوب ... شخصية غريبة موسوسة ذكية جدّاً ... حاولت مجاراتها بسعودة الشخصية ... تحياتي لنقدك الجميل و تحفيزك الأجمل ...

    ردحذف
  3. جميل جدا حلوه فكرة سعودة الشخصيه.

    ابدعت ابي.

    ردحذف

قبل أن أكون

 قبل أن أكون يا ترى .. أين كنت قبل أن أكون؟ أكنت في عالم الذر بداية إلى أن كتب الله لأبي وأمي أن يلتقيا لأكون؟ نعم، لقد كنا أرواحا بلا أجساد...