الخميس، 10 يناير 2013

١٧٦- المنارة

قرية آمنةٌ و ربٌّ غفور ... كلمةٌ دائماً مايرددها الحاج حسن ... و هو يرى قريته الصغيرة الآمنة ... تتحول إلى غير ذلك ... لتعود به الذكريات إلى زمن قديم ... تعود به إلى حقبةٍ عزيزة على نفسه ... يفتخر بها ...

أعلى المنارة ... واقفاً على شرفتها التي تحيط بالمبنى ... القابع على أعلى جبلٍ قصي ... و قد امتد إلى داخل البحر ... دائماً مايسهر حسن الليل و هو يدور في الشرفة ... ليستكشف المنطقة ... و يحرسها ... و يساعد البحارة التائهين في عرض البحر ... ليهديهم إلى حيث الشاطئ ... و يحذرهم من الإصطدام بهذا الجبل الصامد ... فأبوه هو حارس المنارة ... و المنارة تشكل له البيت و المدرسة و الملعب ...

نشاء حسن في هذه المنارة ... و ترعرع فيها مع والده ... الذي يتفانى في تربيته ... و تعليمه أسرار المهنة ... فهو الأب و الأم و المدرس و المدرب ... يقضيان جُلَّ وقتهما في هذه المنارة ... و يرقبون الناس عن بعد ... 

ينعم برؤية الشمس أثناء غروبها ... و هي تغطس رويداً رويداً ... في أعماق البحر ... و يخفت لون أشعَّتِها البرتقالي ... حتى يتلاشى ... منظرٌ لاينعم بمشاهدته الكثيرين ... لانشغالهم بالحصول على رزقهم و قوت عيالهم ... في الوقت الذي أصبح فيه هذا المنظر طقس من طقوس حياته ... لايُفَوِّتُه مهما كانت الظروف ... 

في الصباح الباكر ... و قبل شروق الشمس بساعة على الأقل ... يستيقظ حسن ... و ينضم إلى والده في الشرفة الدائرية ... و قد أعد له والده كأساً من الحليب الدافئ ... يقفان متأملين في امتداد البحر أمامهم ... و امتداد السماء فوقهم ... و انتشار النجوم الكثيرة في أعماق السماء ... و انعكاساتها على صفحة البحر ... منظر جميل ... يبث في أنفسهما الهدوء و الطمأنينة ...

مستقبلاً القبلة ... يصدح والده بأذان الفجر ... و كأنه يوقظ الشمس النائمة في أقصى الأفق الممتد ... ماأن ينتهي من الأذان ... إلّا و تنتشر طيور النورس بأعداد كثيرة ... تحوم حول المنارة ... و هي تطلق صيحات هادئة ... و كأنها تسبِّح الخالق عزَّ و جل ... يصلّيان سوياً ... و يبقيان حتى تشرق الشمس ... من الجهة المقابلة للبحر ... حيث تبث أشعتها الورديَّة من فوق مسجد القرية الوحيد ... حتى ينتشر إلى جميع بيوتها ... و كأنَّ بركات المسجد ... تتوزّع عليهم بالتساوي ... ليقول والده "قريةٌ آمنةٌ و ربٌّ غفور" ...

صُوَرٌ جميلةٌ لاينساها حسن ... عن أوقات مضت ... مع والده الحبيب ... الذي توفي و هو على رأس عمله ... بعد أن درّبَه و أعدَّه ليحل محلَّهُ ... و يقوم بما هو مطلوب منه ...

مع مرور الزمن ... تم ربط الجزيرة بجسر طويل ... و لم تعد هناك حاجة لعامل منارة ... بل لم تعد هناك حاجة للمنارة نفسها ... و قرَّر عمدة القرية ... وضع سياج حول المنارة ... للمحافظة عليها ... كأثَرٍ من آثار القرية ... التي لم يعد تشغيلها مُجدِياً ... لقِلّة السفن التي تَقترب من سواحلها ... و طُلِب من حسن إخلائها فوراً ...

يطوي حسن معه جميع ذكرياته ... و آلامه ... و يغادر باب المنارة ... مخترقاً غابةً من ناطحات السحاب ... و الشوارع الإسفلتيه ... و مغادراً للبحث عن قريةٍ آمنة أخرى ... تحتاج إلى خدمات عامل منارة ... و هو يردِّد "قريةٌ آمنةٌ و ربٌّ غفور" ...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

قبل أن أكون

 قبل أن أكون يا ترى .. أين كنت قبل أن أكون؟ أكنت في عالم الذر بداية إلى أن كتب الله لأبي وأمي أن يلتقيا لأكون؟ نعم، لقد كنا أرواحا بلا أجساد...