قَدِمَ من البرِّيَّة ... حيث ولد و ترعرع حتى صار ابن العشرين ... أتى به عمه من أقاصي النفوذ ... بعد أن أصبح و حيداً ... فقد توفّى أبوه فجأة ... و وجد نفسه وحيداً في الصحراء ... مع أغنامه و جِماله ... مصدوماً كان ...
يجلس و يتناول فنجاناً من القهوة ... يشربه لتعود إليه ذكريات قديمة ... تدمع عيناه ... و يحكي لهم ما يجول في خاطره ... و يطلب من عمه أن يأتي لهذا المكان كل أسبوع ...
لايفْقَهُ من المَدَنِيَّةِ شيئاً ... مرعوباً من الأشياء الكثيرة التي فجأةً صارت جزأً من حياته ... خائفاً من الجميع ... و مرعوباً من كل شيء ... من السيّارة و التلفاز و الراديو و الحاسوب و الشارع و الحفريّات و الآلات الكثيرة المنتشرة خارجاً ... هذا كله عالم غريب بالنسبة له ... فقاموس حياته التي عاشها ... يحوي مفردات قليلة ... صحراء، أب، ضيوف، خيمة، رعي، مطر، تمر، قهوة، عشب ... تحوّلت هذه المفردات إلى شوارع و سيّارات و آلات و أسلاك و مصابيح و أناس من جنسيات مختلفة لا يفقه لهم و لا يفهم عليهم وبيوت هي صناديق إسمنتية يغلقها الناس عليهم لينفصلوا عن بيئتهم ... مفردة الشديد انعدمت حيث يقضي الناس معظم حياتهم داخل هذه الصناديق الإسمنتية ... مفردة رعي الأغنام انعدمت كذلك و حلت محلها أعمال شتّى و معامل و مصانع كثيرة ... القهوة أصبحت سوداء تُشرب بالسكّر ... شبّة النار إنعدمت لتحل محلها مدفأة تعمل بالكهرباء ... أشياء كثيرة صَعُبَ عليه أن يتأقلم معها ...
لا يحب أن يُغْلَقَ عليه الباب و هو داخل الغرفة ... يحس أنه مكتوم لايستطيع التنفس ... نفسه دائماً منقبضة ... يرجو عمّهُ أن يعيده إلى البَرِّيَّة ... يَعِدُهُ عمه أن يأخذه إلى البر القريب في نهاية الأسبوع ... يجلس في انتظار هذا اليوم على مُضض ... سارة ابنة عمه ... فتاةٌ في الثامنة عشر ... تُحِسُّ بمعاناته ... و تفكِّر بصعوبة الحياة التي عاشها ... و صعوبة تأقلمه مع هذه الحياة التي يعيشونها ... تُجَهِّز العدة لنهاية الأسبوع ...
يوم الخميس صباحاً ... تُحمِّلُ سارة عدَّةَ الرحلة ... يركب الجميع السيّارة ... ينطلقون إلى البر القريب ... يصلون إلى مقصدهم ... ينزل ناصر من السيّارة ... يرمي بنعاله ... و ينطلق راكضاً مستمتعاً بالهواء العليل ... يعب منه و يملاء رئتيه و يحبسه باستمتاع ... و هم يضحكون فلأوّل مرّةٍ يرونه في بيئته ... يتصرَّف على طبيعته ... يجمع القليل من أغصان أشجار البَريَّة اليابسة ... يحفر قليلاً في التراب ... يضع ماجمع من حطب ... و يشعل النار فيه بتلذُّذ ... تجلب سارة عدَّة القهوة التي اشترتها خصيصاً لناصر ... تقرِّبها منه ... و تطلب منه أن يصنع لهم قهوة بريّة ... يرمق العدة الكاملة ... محماس و مبرد و نجر و دلال رسلان و غوري قهوة و ليف و قهوة و هيل ... يبدأ في صنع القهوة بالطريقة الأصيلة ... الجميع ملتُِّمين حول النار ... يرون صنيعه ... و قد انطلق لسانه يؤنسهم و يحدِّثُهُم بحكايات كثيرة ... و يلقي عليهم أبياتاً جميلة ... و هو مشغول في صنع القهوة ... حتى انتهى ... وقف و بدأ يصب لهم من القهوة المبهّرة ... يرفع دلّة الرسلان عالياً و هو يصب في الفنجان ... لينهيها بضرب طرف الفنجان على مقدمة الدلة بصوت جميل ... و هو لايزال يحدّثهم ... و يأبى أن يتناول شيئاً من القهوة حتى ينتهي من صَبِّها لهم ...
روعه
ردحذف