الأحد، 13 يناير 2013

١٧٩- اللوزة

يركض داخل المزرعة الصغيرة ... يلعب مع توأم روحه ... يقفزون فوق ترعة الماء الضيقة ... تقطف زهرةً من الزهور المنتشرة على جانبي الترعة ... و تقدِّمها له بابتسامةٍ مُشرِقة ... يأخذها منها بيد مرتعشه ... و علامات الحب واضحةً على مُحَيّاه ... يخرجون من باب المزرعة الخشبي ... و يذهب كلٌّ منهما إلى منزله ...

خالد في الثامنة و منيرة في السادسة ... وَحيدَي عائلتيهما ... طفلان ترعرعا سويّاً ... أبناء عمومه ... يسكنان بيتين لصيقين ... يفتحان على مزرعة صغيرة ... يشتركُ آبائهما في زراعتها و الحفاظ عليها ... فهي مصدر رزقهما ... و متنفس العائلة الوحيد ... 

بين البيتين ... من الناحية الشرقية ... شجرة لوز وارِفة ... زرعها خالد و منيرة بيديهما ... كبرت و ترعرعت أمام عينيهما ... يحبان الجلوس تحتها بعد صلاة العصر ... يلعبان حولها ... يسقيانها حبّاً و هياماً ... شَهِدت أحداثاً كثيرة ... فهي مركزاً لبث مكنونات صدريهما ... و لواعج نفسيهما ... يقصدانها عند فرحهما ... و عند حزنهما ... فهي الصدر الحنون الذي يصغي لهما في أي وقت ... و عند كل حين ... بلا تذمًّر و لا ملل ... 

خالد لدى اللوزة ... حزين دامع العينين ... يتحدّث إليها بأسى ... فقد قرَّر عمَّهُ مغادرة القرية إلى المدينة البعيدة ... لمعالجة زوجته المريضة ... كيف سيقضي خالد أيّامه بدون رؤية منيرة؟ ... إحساس قاتل كاتم ... و كأن فوق صدره صخرةٌ كبيرة ... يزداد ثقلها كُلَّ دقيقة ... لتتفجر دموعاً من أعماق أعماقه ... و تسقي لوزة الحب و الإخلاص ...

في يومٍ كئيب ... غادر عمه و عائلته من عالمٍ يعرفونه جيداً ... إلى عالم غريب ... بعيد ... و عبراتهم مكتومةً في وسط صدورهم ... تنطق عيونهم بِضَياع ... و قلوبهم بفراغٍ قاتل ... يودِّعهم خالد من بعيد ... من تحت اللوزة ... يحرّك يديه لهم مودِّعاً ... و عينيه تلاحقهم حتى تلاشت راحلتهم عند الأفق البعيد ... قضى معظم ليله عند اللوزه ... لايريد أن يتركها ... و كأنه يخشى أن تذهب هي الأخرى ...

تتسارع ساعات الزمن ... و تدور السنون ... و تنقضي خمسين سنة ... يتغير فيها منظر بيوت القرية ... و تمتلاء المساحات الفارغة بينها ... و اللوزة ماتزال صامدة في وجه هذا التغيير ... كل يوم ... بعد صلاة العصر ... يقصد خالد شجرة اللوز الكبيرة ... ليجلس تحت ظلِّها ... و يتحدث معها في أيّامٍ مضت ... يتذكّر والده و والدته ... الذين رحلا منذ زمن طويل ... و عمه الذي رحل و نزع جذور منيرة من أرض المزرعة نزعاً... ليتركوه وحيداً ... هو و بيتيهما و المزرعة و شجرة اللوز ... التي تمثِّل لديه روح الإخلاص و الصمود ... تمثِّل أجمل أيامه ... و أتعسها ... تمَثِّل تاريخاً حافلاً بأحداث حياته جميعها ... فهي الصاحب الوحيد ... الذي يؤنِّسه فيما بقي له من عمر ...

في هذا اليوم يحس خالد بكآبةٍ ثقيلة ... تستوطن مساحات صدره ... ضيقٌ كبير يملاء نفسه ... و يستولي على شعوره ... يذهب لصلاة العصر ... و يخرج قاصداً شجرة اللوز ... ليسلى نفسه بالحديث إليها ... و التنفيس عن ما يغلي داخله ... لِيُصْدم برؤية مقاول سفلتة شوارع القرية ... و قد اجتزَّ اللوزة من عروقها ... يقترب من الحدث ... ليرى تاريخاً يُباد ... و حياةً تقتل ... و أحداثاً تُجتَث ... ليقع على ركبتيه من هول الحدث ... يعطيه العامل القريب ماءاً ... يشربه ... و يتناول غصناً أخضر من أغصان اللوزة ... و يمشي حزيناً عائداً إلى بيته ... 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

قبل أن أكون

 قبل أن أكون يا ترى .. أين كنت قبل أن أكون؟ أكنت في عالم الذر بداية إلى أن كتب الله لأبي وأمي أن يلتقيا لأكون؟ نعم، لقد كنا أرواحا بلا أجساد...