الثلاثاء، 22 يناير 2013

١٩٣- هروب

يسرح بأغنامه من الصباح الباكر ... متزوّداً بفَصٍ من التمر ... و قارورة ماء ... و متحزِّماً بعصاً هي رفيقة دربه ... و عونه في السفر ... يمشي خلف غنيماته حافي القدمين ... على صعيد طيب ... ذو رمل نظيف ... يقودها إلى سعدها ... 

مطلق ... فتى في الرابعة عشر من عمره ... ذو سحنةٍ جميله ... قد امتصت وحشة الصحراء رحيقها ... فزادتها خشونةً ... شعر طويل ناشف ... و يدين قد زادتها نشوفة الجو تصلُّباً و تشققاً ... أمّا قدميه فحدِّث و لاحرج ... أصبحت كقدم سفينة الصحراء ... تجد حبات الرمل تتخلل فتحات شقوق كعبيه ... و هو لايشعر بذلك ... قد تكَّيف جسمه على العيش في ظروف الصحراء الصعبة ... و تكيفت عزيمته على تحمُّل تلك الظروف مهما كانت ... وحيد أبويه العجوزين ... الذين تركهما في خيمتهما الصغيره ... و قد حلب لهما من حليب غنيماته قبل أن يغادر ... و تركه في إناء عند رأسيهما ليبرد ... قبل أن يستفيقا ... و انطلق لعمله اليومي ... الذي يجيده ...

عِلمُه محدود ببيئته التي وُلِدَ و ترعرع و كبر فيها ... و بحكايات أبيه و أمه التي يحكونها له عن العالم الكبير ... على حدود الصحراء ... و بما يقوله بعض الضيوف الذين استضافوهم بعد أن أضاعوا طريقهم ... و وقعوا عليهم بالصدفة ... في سيارات غريبة عليه ... لا يزال يخشى الإقتراب منها حتى الآن ...

راحته النفسية و الجسدية ... تُخيِّم عليه بعد أن يصل بغنيماته إلى مرعى مليء بالعشب ... ليتركها تأكل و تلعب ... و ينتبذ هو مكاناً قصيّا ... في أعلى الكثيب الرملي القريب ... يجلس مشاهداً غنيماته ... ليَهْرُبَ إلى عالمه الذي صنعه لنفسه ... يحب أن يجلس في المكان الفاصل بين الوعي و اللاوعي ... هناك يخلق البيئة التي يريدها ... بسمائها و ترابها و أنهارها و أشجارها و بيوتها و حيواناتها ... ببردها و حرها ... بهوائها و عَبَقِها ... بسكّانها و حيويتها ... ثم يبدأ يرتب أحداث القصة التي يرغب في العيش من خلالها هذا اليوم ... فتارةً يكون الحاكم ... و تارةً يكون العالِم ... و تارةً يكون البطل ... و تارةً يكون العاشق ... 

كل يوم هو في شأن ... و كل يوم يتقمّص شخصيةً جديدة ... خيالٌ خصب ... ذكاءٌ حاد ... و إبداعٌ بلا حدود ... يستمر يعيش أحداث قصته التي صنعها ... حتى تجتمع عليه غنيماته يطلبنه العودة ... يتأكد من عددهم ... يجمعهم ... و يعود أدراجه كما جاء ... ليقوم بخدمة والديه حتّى يناما ...  يقوم قبل الفجر ليحلب غنماته و يضع الإناء عند رأس والديه كي يبرد ... و دواليك ... روتين حياة بدوي مُبدِعٍ في وسط الصحراء ...

هناك تعليق واحد:

قبل أن أكون

 قبل أن أكون يا ترى .. أين كنت قبل أن أكون؟ أكنت في عالم الذر بداية إلى أن كتب الله لأبي وأمي أن يلتقيا لأكون؟ نعم، لقد كنا أرواحا بلا أجساد...