سلمان ... رجل في الخمسينات ... موظَّف في شركة كبيرة ... متألِّقاً و محبوباً ... عاش حياته يعمل بجد و كد ... و أتى اليوم الذي يستريح فيه هذا الجسد ... ليعمل مايحلو له ... فكَّر أن يسلك طريقاً سلكه أصحابه من قبله ... قدم هذا اليوم أوراق طلب التقاعد المُبَكِّر ... و قد تم قبولها ...
لايزال يذكر أوَّل يومٍ قضاه بعد التقاعد ... يقوم مُبَكِّراً ... سعيداً ... لايوجد لديه دوامٌ ... حُرٌّ طليق ... يستطيع أن يقضي يومه على مزاجه ... يخرج و يقف أمام الباب ... يرى الطلاب يستقلُّون الحافلات المدرسية ... و الموظفين ينطلقون في سيّاراتهم لأداء عملهم اليومي ... يضحك من أقصى قلبه ... ما أجمل الحرِّيَّة ... يرجع داخل البيت ... يحلق ... يغتسل ... يختار له ثوباً نظيفاً ... يرمق بدلات العمل التي لن يحتاج إلى أن يرتديها بعد اليوم ... يلبس ثوباً نظيفاً ... يمشط شعرَهُ ... يركِّزُ في المرآة ... يا الله ... شعرٌ أبيض كثير ... هناك بقعةً صغيرةً خاليةً من الشعر ... يمشط شعره ... يتعطَّر ... ثم ... يُفكِّر ماذا يعمل اليوم ... لاتوجد لديه أدنى فكره ... يستقل سيارته الفخمة ... يدور في الحارة ... يقصد طريق الكورنيش ... يسوق بتمهُّل ... يفتح النوافذ جميعاً ... و يعُبَّ من الهواء المنعش ... يحبسه في رئتيه باستمتاع ... يقف عند بقّالةٍ صغيرة ... يشتري جريدة ... يذهب إلى المقهى القريب ... يطلب كوباً من الكباتشينو ... و يجلس يقرأ الجريدة ... و يرتشف قهوتهُ على أقل من مهله ... يرن جواله ... إسم زوجته على الشاشة ... "ألو ... صباح الخير حبيبي ... هاه وينك" ... "صباح النور على البنور ... في المقهى ... أقرأ الجريدة .. و أشرب القهوة" ... يتحدثان لخمس دقائق ... يعود لفنجان قهوته الذي أصبح بارداً ... يرتشفه حتى آخر قطرة ... و يعود ليكمل قراءة الجريدة ...
مع كل الحرية التي حصل عليها فجأةً ... لاتزال روح العمل تجري في دمه ... لا تزال السلطة التي يمنحها له العمل في كيانه ... و لاتزال فرحة الإنجاز تحوز على عواطفه ... فجأة ... إذا به يفقدها جميعاً ... ليقوم على خِدمة نفسه فقط ... و إدارة بيته فقط ... ملل رهيب يجد طريقه إلى ساعات حياته ... يحن لأيّام العمل ... و الإجتماعات ... و الإدلاء بالآراء ... و التقدير الذي يحصل عليه من رؤساءه ... و توقيع الخطابات المهمة ... و مراجعة الوثائق و تعديلها قبل إرسالها للمقاولين ... و مراجعة خطة العمل التشغيلية ... و و و ... أشياء كثيرة بدأ يشعر أنه يفتقدها ...
هذا الصباح قرَّر أن يزور أصدقائه في مقر العمل ... يذهب إليهم يرحِّبون به ... ثم يمضي كل منهم إلى القيام بمهامه ... يتنقل بين مكاتبهم ... لا يشعر بالإهتمام الذي كان يلقاه من قبل ... يخرج و يعود إلى البيت ... يقصد سريره و ينام ... يقوم ليجد مكالمةً من زميله محمد الذي تقاعد قبله ... يتصل به ... يتواعدان أن يتقابلا الليلة في "كريسبي كريم" ... يشكون لبعضهم البعض ... يتحدّثون لساعات ... ثم ينصرف كل منهم إلى بيته ...
سلمان على سريره ... يفكر في صديقه محمد ... المسكين تقاعد ليبدأ رحلته مع العلاج من أمراض عدّة ... فهو يومياً على موعد مع المستشفى ... يقضي و قت فراغه مع الطبيب ... و أنا بأتم الصحة و العافية ... و أشكو من الملل الرهيب ... و من وقت الفراغ الطويل ... مالي أشكو من نعمةٍ حباني بها الله؟ ... الحل بسيط ، هو أن أستغل بقضاء وقت الفراغ هذا في أشياء مفيدة لي و لمجتمعي ... أنا أحب القراءة ... لأقضي وقتي في قراءة المفيد ... و تلخيص ما أقرأ ... و وضعه على موقعى على الشبكة العنكبوتية ... ليستفيد منه المجتمع من حولي ... و لأبحث عن عمل تطوعى يستفيد أصحابه من خبراتي ... لأطوره و أبذل فيه نصف وقت فراغي لله سبحانه و تعالى ... ينام سلمان قرير العين تلك الليلة و قد وجد حلّاً لاستغلال وقت فراغه القاتل ...
الساعة التاسعة صباحاً ... يدخل سلمان مكتبه ... يتصفح الجريدة اليومية ... و يرتشف قهوته المفضّلة ... ثم يبدأ عمله في إدارة جمعية تخدم المستهلك ... تراقب المنتجات المعروضة في الأسواق ... تقيمها ... و ترفع فيها تقريراً شهرياً يوزع مجاناً إلى جميع أهالي المنطقة ... و جميع الإدارات الحكومية ذات العلاقة ... يتم تمويله من تجّار المنطقة و أعضاء شرف "جمعية حقوق المستهلك" ... التي بادر سلمان بتأسيسها و إدارتها و تشغيلها مع عدد من زملاءه المتقاعدين ... و التي حازت على تقدير و دعم من أمير المنطقة شخصيّاً ...
لعل ذلك يتحقق اذا سمح به. يوجد لدينا العقول والسواعد والامكانيات ولكن هل يسمح به?
ردحذف