رجع من صلاة العصر يمشي الهوينى ... ذاكراً ربه و مستغفراً ... لم يفارق مسجده منذ عرف نفسه ... لم تفته تكبيرة الإحرام قط ... الصلاة كانت شغله الشاغل ... ما أن ينتهي من فرض ... حتى يستعد للتالي ... إنَّهُ رجل تعلق قلبه في المساجد ...
خفيف النفس ... طيِّبُ القلب ... لطيف المعشر ... يُحبه الصغير قبل الكبير ... يجلس بعد صلاة العصر في ظلال حائط المسجد ... لايلبث أن يلتم حوله جميع شباب القرية ... كلٌّ حاملاً معه شيئاً ليقدِّمه للشيخ ... فهذا يأتي جالباً دلة القهوة ... و هذا "قرص مفروك" ... و هذا ماءاً مخلوطاً بماء اللقاح ... يحبونه جميعاً ... و يحبون قضاء الوقت معه ... و الإستماع إلى أحاديثه الجميلة ... العجيبة ... الغريبة ...
الشيخ ساجد ... شيخٌ في خريف العمر ... تعدى المائة ... لايزال نشيطاً و يملك ذاكرةً قويَّة ... قطن في هذا الموقع منذ زمن بعيد ... مع زوجته و عشرة من الأبناء و البنات ... كانت العائلة الوحيدة التي تسكن في هذا المكان ... فهو المسئول عن حراسة مصدر الماء الوحيد الذي يغذّي المدينة الكبيرة ... و التي تبعد قرابة الخمسين كيلومتراً إلى الشمال ... توفي جميع أفراد عائلته واحداً واحداً ... و دفنهم بيديه قريباً من هذا المكان ... و منذ ذلك الحين ... لم يستطيع أن يفارق ذلك المكان ... الذي يحمل ذكرياته السعيدة و الحزينة ...
منذ السنتين ... توافدت عليه عوائل شابة ... للسكن في هذه البقعة ... و بدأوا بناء بيوتات بسيطة ... لاتتعدى ميزانياتهم البسيطة ... ليجد الشيخ ساجد ... بيته و مسجده و البئر ... في وسط أعداد كبيرة من البيوت الجديدة ... و قد أحاط به السُكّان الجُدُد من كل صوب ... و شملوه بحبهم و عنايتهم ... لأنَّهُ شيخ القرية الوحيد ...
لقد شعر الشيخ ساجد بالحب من حوله ... و أعاد هذا لديه ذكريات قديمة ... طوى عليها الزمن ... فكان يرى أبناءه في كل صغير ... و بناته في كل جارية ... ليزيد حبهم في قلبه ... لقد كَوَّنوا لديه إحساساً بالأمان و الإنتماء ... و هو شعورٌ فقده منذ أكثر من أربعين عاماً ... بعدما دفن آخر بناته ... في الكثيب الرملي القريب ... لقد جعله هذا الشعور ... يصغر عشرات السنون ... حيث تلاشى هَمُّ قلبه ... و وِحشة نفسه ... و عاد كإنسان بين البشر ... بعد عقود من الوحشة و الألم ...
يستيقظ الشيخ ساجد من قيلولته على صراخٌ و صياح ... يخرج ليرى تجمُّعٌ كبير من جميع أبناء القرية ... و في وسطهم آلة كبيرة ... و رجال عليهم زي عسكري ... ليعلم أن بلدية المدينة الكبيرة ... أرسلت هذه الآلة لتهد جميع المباني ... لأنها بنيت بدون الحصول على ترخيص البناء اللازم ...
البئر ... و بجانبه شيخٌ كبير ... يدور حوله ... يتفقده ... يقفل باب السياج الحامي للبئر ... و يمشي بخطوات أثقلها الزمن ... إلى مبنى المسجد الطيني الذي سلم من آلة الدمار ... يؤذن لصلاة العصر ... يصلي وحيداً ... يخرج ليجلس في ظلال حائط المسجد ... يُسنِد ظهره إلى الحائط ... و يُطلِقُ بصره إلى ماحوله من دمار شامل ... يزفر زفرةً من أعماق أعماقه ... ماذا فعلوا بشيخٍ كبير ... للتو بدأ يسترجع عيش حياته ... دمار ... لم يسلم منه إلا البئر و المسجد ... الذي أصبح سكنه الدائم ...
ابدعت
ردحذفاخوك محمد