يودِّع زوجته و أبنائه ... فلن يراهم أو يسمع عنهم مرَّةً أخرى قبل سنتين من الآن ... يحضن إبنهُ الصغير ذو العام الواحد ... و دموعه تتساقط على خدَّيه ... تأخذ زوجته الإبن من يده و هو لايزال يقبِّلُه ... يرفع رأسه ليرى وجهها ... لتزيد عبراته ...
إنّه فراق الأحبه ... فراق الزوجة و الأبناء ... فراق الصاحبة و فلذات الكبد ... ابنته الصغيرة ذات السنين الثلاث ... ممسكةً برداء أمها الأصفر ... و قد رفعت طرفه بيدها ... و وضعته في فمها ... ترفع عينيها بحزن إلى وجه أبيها ... لم تستوعب مايحدث بعد ... و لكنها تشعر بسلبية الموقف ... و بتراجيديا اللحظة ... يميل عليها و يقبل رأسها ... و ينصرف بسرعةٍ بكامل جسده ... إلى التك تك الذي ينتظره ... بدون أن يلتفت إليهم ... يغادر التك تك القرية الزراعية الصغيرة ... في رحلة إلى محطة القطار القريبة ...
يمر على بيوتات القرية الفقيرة ... جميعها من الصفيح المُهتَرء ... تسنده أخشابٌ بالية ... فقر مُدقع ... يضطر أبنائها إلى البحث عن عمل ... أي عمل ... لإطعام أفراد أسرهم ... و توفير بعضاً من الأساسيات الحياتية ... يستقل كادر القطار إلى العاصمة ... ليسافر إلى رب عمله الجديد ... في رحلة توازي الساعات السبع جوّاً ...
يجلس كادر في كرسيه آخر الطائرة ... و هو يحمل هموم الدنيا في رأسه ... ماهو حال زوجته و حبيبته هذه اللحظه ... و ماذا سيفعل أبنائه بدون وجوده بينهم ... هل سيكفيهم المال الذي استدانه من بنك القرية ... لحين أن يتمكن من إرسال أول دفعةٍ من راتبه ... من هو رب عمله الجديد ... هل سيكون قادراً على القيام بما هو مطلوب منه ... هل سينجح في الحصول على رخصة قيادة ...ماهي العواقب إن لم ينجح في فحص القيادة ... أين سيسكن هناك ... كيف سيأكل ... أسئلة كثيرة تتقاذف داخل رأسه ... جعلت رحلته قطعةً من العذاب ... يسحبه ملاك النوم ... ليُخرِجَهُ من هذه المعاناة ... ليقوم على إعلان ربط أحزمة المقاعد لحين النزول في مطار الرياض ...
تقف الطائرة ... يأخذ شنطته الصغيرة و يعلقها على كتفه ... يغادر الطائرة ... ينهي إجراءات الجوازات ... يخرج ... الكثير من السعوديين ينتظرون لدى الحاجز ... بدون فائدة ... يحاول أن يجد علامةً ليتعرّف على كفيله و ربّ عمله الجديد ... يعيد نظره في المستقبلين ... يرفُّ قلبه عند رؤيته أحد المتواجدين ... من الذين يرتدون الغترة و العقال ... شخص ملامح وجهه تختلف عن الباقين ... لونه أبيض مائلٌ إلى الصفار ... أجلد ... لايوجد شعرٌ في وجهه ... عينين صغيرتين ... مبتسم ... يؤشر لكادر ... فيذهب إليه ...
يقف أمامه مشدوهاً ... يحدِّثُه بلغته ... يتعجَّب كادر ... يأخذه بالأحضان و كادر لايزال غير مستوعباً للموقف الغريب ... "كادر ... مرحباً بك بين أهلك ... ألم تعرفني ... أنا محمد إبن جاركم سالك ... نعم محمد بن سالك" ... يتعرَّف عليه كادر ... و يمتلأ قلبه فرحاً ... يخبره بأنه يبحث عن كفيله الجديد محمد بن سالم ... ليعلم أنه هو ... قد حصل على الجنسية السعودية ... و عمل في التجارة ...
بعد أقل من شهر ... يُرسِل كادر إلى زوجته مبلغاً من المال ... و تأشيرةً لها و لطفليها لتلحق به في الرياض ... غير مُصدِّقة ... تضُمُّ طفليها على صدرها ... و دموع الفرح تملأ عينيها ... و هي تشكره سبحانه و تعالى على حسن التصريف ...
رائعه. استمر.
ردحذفاخوك غازي