محمد طفل بريء ... تكالبت عليه ظروف الحياة ... تقاذفته أحداثها ... و تركت مخالبها آثارها العميقة في طريق حياته ... فقد وُلِدَ يتيماً ... تُوُفِّيَ والده و هو في طريقه راجعاً إلى البيت ... بعد أن أوصل والدته إلى المستشفى و هي في حالة الولادة ...
في تلك الليلة الباردة ... كانت هناك صرختان ... صرخة الصغير أثناء خروجه إلى الحياة ... و صرخة أمه بعد علمها بخبر والده ... صرختان من الأعماق ... لفقدهما الأمن و الإنتماء ... الذي كانا يشعران به قبل تلك الليلة ...
ترعرع الصغير ... في بيتهم الطيني القديم ... الذي يتوسطه حوشٌ كبير ... في مركزه بئر يمدهم بحاجتهم من المياه ... و تحيط به ثلاث غرف من الشرق و الجنوب ... و مطبخ صغير و مجلس رجال من الجهتين المقابلتين ... دائماً مايسأل أمه عن أبيه ... لتبتسم له بدون أن تتكلم ... و في عينيها شوقٌ و خوف دفين ...
كان محمد متعلِّقٌ بأُمِّه كثيراً ... فهي الأم و الأب و الرفيق ... لا يعرف من هذه الدنيا ... إلّا أمن صدرها ... و دفء حضنها ... فهي الأذن المصغية ... و اليد المساندة ... و المشورة الصافية ... و هي الحنان كله ... يبث لها لواعج نفسه ... و أسرار حياته ... لترُدّ عليه "سِرّك في بير ... يا وليدي" ... و لكن لايزال هناك سرٌّ دفين ... يستطيع أن يراه في أعماق عينيها ... ، ينتظر الوقت المناسب لتُطلِعه عليه ...
ليعلم محمد بعد أن دخل المدرسة ... أنّ لديه أخوان و أخوات لايعلم عنهم شيئا ... يقطنون في المدينة الكبيرة ... مع أمهم المُطلّقة ... تحذِّره أمه منهم ... و تخبره بأنهم لم يسألوا عنهم قط ... و أنهم يحاولون دائماً إخراجهم من بيتهم القديم ... ليبيعوه لمستثمرٍ يرغب في هدِّه و بناء مبنى ذو طبقات متعدِّدة في موقعه ... طمع بني آدم ... و ظلم الإنسان ... و ضعف المظلوم ... أخبرته كذلك ... بأن والده قد سجّل هذا البيت بإسمها ... لهذا لايستطيعون بيعه ... و كيف يبيعون ما لا يملكون ... و قد خبأت صك البيت حتى لايقع في أيدي أخوته ... و يضيع حقه ...
و في يوم كئيب ... عابس ... توفيت أمه ... ليجد محمد نفسه وحيداً ... فقد توارى الصدر الحنون في التراب ... و فقد الصديق الذي يشاركه أدق أسراره ... فقد الأذن المصغية ... و المشورة المخلصة ... هاهو يمشي وحيداً بين غرف البيت ... الذي أصبح مهجوراً لعدم و جودها فيه ... ذكريات كثيرة يراها تعرض أمامه ... في كل غرفة ... في كل ركن ... و عند كل باب ...
قرَّرَ محمد أن يهاجر إلى المدينة ... ليجد له عملاً ... و يُكمِلَ تعليمه ... فجمع أغراضه ... و جلس على حافة البئر ... يلقى نظرة أخيرة على غرف البيت و ممراته ... لاحظ محمد حبلاً صغيرا في جدار البئر الداخلي ... سحبه ... ليجد في نهايته كيساً بلاستيكياً ... يفتح الكيس ليجد صك البيت ... و قد تم تحويله بإسمه ... تنهمر دموعه من عينيه ... و هو يردِّد ... "سِرّك في بير ... يا وليدي" ...
ممتاز....نهايه سعيده
ردحذف