الأحد، 27 يناير 2013

دانة

دانة بين أحفادها ... تحكي لهم حكايتها ... الكل مصغٍ  و عيونه مركّزة عليها ... ليعيشوا معها قصّتها الأليمة ... و حكايتها الغريبة ... منذ أن كانت طفلة في كنف أمّها و أبيها ... حتّى كبرت و تزوجت من جدِّهم خالد ... 

طفلةٌ عاشت بين أهلها و بين أحبّائها ... حتى بلغت الأعوام الثلاثة ... أمٌّ شابة في عز أنوثتها و أبٌ شاب في عز طموحه ... تزوّجا و هما طالبين على طاولة الدراسة ... تنفيذاً لرغبة أهليهم ... و أتحفتهم دانة قبل تخرجهما ... لتكون علامة و  رابط للمحبّة بينهما ...

حصلا على بعثة لإكمال دراستهما ... فغادرا بدونها ... و تركاها عند عمِّها أمانة لحين عودتهما بعد حصولهما على الدكتوراة ... حيث فرّقتهما الدراسة ... الأم شرقاً في فلوريدا و الأب غرباً في كليفورنيا و دانة في الوطن ... كلٌّ منهم هو في شأن ... شغلهما الشاغل إنهاء الدراسة و الرجوع إلى أرض الوطن ... و دانة تعاني ... فقد فقدت حضناً دافئاً ... و صدراً حنوناً ... و حبّاً دائماً ... لتجد نفسها فجأةً بين أغراب لاتعرفهم ... و لاتجد لها عندهم انتماء أب و لا عطف أم ... فعمها و زوجته مشغولون بأبنائهم ... و لا يجدون متّسعاً من الوقت لإعطائها ما تحتاجه من اهتمام ... تجد نفسها وحيدة بين أبناء و بنات عمها العشرة ... تعيش عالمها الذي صنعته لنفسها ... الذي يجمعها بأمها و أبيها على الرغم من بعد المسافات ... و أقصى حلمها أن يلتم الشمل من جديد ... دائماً منطوية على نفسها ... و تعيش في أحلامها ... لتهرب من واقعها الأليم ...

في يومٍ من الأيّام ... و بينما كانت دانة تلعب في حوش البيت ... إذا بقطّةٍ صغيرة تقترب منها بوجل ... ترمقها دانة ... شعر أبيض ... عينان زرقاوان ... تقترب منها ...  تتمسح القطة برجل دانة ... تجلس دانة بجانب القطة ... تمسح ظهرها ... و القطة مرتخية و سعيدةٌ بهذا الإتِّصال ... حملتها إلى المطبخ ... وضعت لها حليباً في إناءٍ بلاستيكي ... و جلست عندها تراها و هي تلعق الحليب بلسانها الأحمر ... أخذتها إلى غرفتها ... و بدأت تلعب معها ... القطة تركض في أرجاء الغرفة ... بسعادة و مرح ... و دانة تضحك و قد امتلاء قلبها حبّاً و زال همها الذي تحمله في داخلها ... و منذ ذلك الحين ... و دانة و قطتها متلازمتان ... لاينفكّان عن بعضما ... 

وجدت دانة في قطتها انتماء عجيب ... عوّضها عن بعض الحب الذي فقدته منذ زمن ... فهي لاتفارقها ... تفرح لفرحها ... و تحزن لحزنها ... و كأنها تفهم نفسيتها ... و تعرف خبايا صدرها ... نعمة من الله أنزلها عليها ... لتنتشلها من وحدتها القاتلة ... و حزنها الدائم ... لتغدق عليها سعادةً و حبّاً ... أطلقت عليها دانة إسم "ليلى" ... إسم والدتها التي تركتها و مضت في حالها ... فضّلت الكُتُب على ابنتها الوحيدة ... تركتها و هي في أمس الحاجة إليها ... و مع ذلك فهي لاتزال تحبها ... و تنتظر يوم وجوعها ... لتحتضنها طويلاً و تعوِّض ما فات ... 

انتظرت دانة طويلاً ... دخلت المدرسة ... و ابدت تفوّقاً ملحوظاً ... و مع ذلك انقضت أجمل سنين طفولتها ... بدون أن يشاركها فيها أب و أم ... كبقية الأطفال ... لتعلم بالصدفة أنّهما لن يعودا إليها ... أبداً ... فقد وقع لهما حادث هناك ... و توفاهما الله منذ زمنٍ طويل ... ليخيم عليها حزنٌ أسود ... قد ضرب أطناب خيامه عندها ... ليسكن بها ... لا يفارقها ... فقد هدم هذا الخبر أحلامها التي ظلّت تبنيها طوال سنين حياتها ... قتل الأمل الذي كانت تعيش لتراه يتحقق أمامها ... تلاشى كل مابَنَتْه في لحظة واحدة ... لتجد نفسها في خواء ... انمحت كل طموحاتها ... فهي ضائعةً بدون هدف ... تمشي بدون وِجْهَة ... يا الله ما أصعب الحياة بدون أمل ... و ما أثقل الوجود بدون انتماء ... 

و هي في هذه الدوامة المظلمة من الأفكار ... إذا بحركة عند رجلها ... "ليلى" تداعبها و تصدر صوتاً غريباً من داخلها ... و كأنها أحسّت بشعورها ... و أحبّت أن تعزّيها و تشاركها حزنها ... تضعها دانة في حضنها ... و قد زاد ثقلها و كبر عمرها ... تمسح على ظهرها ... و هي مستكينة ... أبناء ليلى يلعبون حول دانة ... يركضون و يمرحون ببراءة ... مما أدخل البهجة عليها ... و انتشلها من حزنها لبضع دقائق ...

أنهت دانة قصتها ... و طلبت من أحفادها أن يذهبوا إلى أسرتهم ليناموا ... تخرج من عندهم حاملةً "ليلى" الحفيدة... و مغادرةً إلى غرفتها ...

هناك تعليق واحد:

  1. قصه جميله لواقع يحدث باستمرار في عصرنا الحالي. وضعه في قصه بهذا الشكل يعطيه دفعه قويه للاحساس بالمعاناه لبعض الاطفال الذين يعانون من واقع مماثل وينبه الاباء بما قد يحدث لهم او لاطفالهم في ظروف مماثله. بوركت.

    ردحذف

قبل أن أكون

 قبل أن أكون يا ترى .. أين كنت قبل أن أكون؟ أكنت في عالم الذر بداية إلى أن كتب الله لأبي وأمي أن يلتقيا لأكون؟ نعم، لقد كنا أرواحا بلا أجساد...