الجمعة، 22 يونيو 2012

٥٥- التَوْتِين

صغيراً كنت ... و لازلت ... أكره الأطباء ... لاأحب رائحة المستشفيات ... أخاف من الحقن الطبيه ... يرعبني منظر الطبيب ... لابساً قميصه الملائكي الأبيض ... قادماً اليك ضاحكاً ... و هو يضمر لك الأسوَأ ...  و يده من خلفه مخباءاً حقنة مؤلمه ... ليغرسها في جسدك بعد قليل ...

في الستِّينات ... كان وَبائَي الكوليرا و الجدري... منتشرةً بين سكان الأرض جمعاء ... و خاصة في منطقتنا الصغيره ... لذلك ... يتوجب على الجميع ... أخذ حقنةٍ سنويه ... تدعى "تطعيماً أو تَوْتِيناً" ... لكي تحفظ الحاصل عليها ... من شر المرض ... ... يكون لقاح الكوليرا ... عن طريق أخذ إبرةٍ ... بينما يكون لقاح الجدري ... عن طريق إحداث شقوق في جلد المتلقي ... يوضع عليها اللقاح ... ليقي الإنسان شرَّ المرض ...

في صباح هذا اليوم ... يأخذنا والدي الى المستشفى ... لأجل الحصول على حُقَن وبائَي الكوليرا و الجدري ... نقترب من مستشفى الخبر الحكومي ... تزداد دقات قلبي الصغير ... ندخل من بوابة المستشفى ... الى الممر ذو الأرضية المبلطه البارده ... و التي تعبق بها رائحة الأدويه و المطهرات ... تلك الرائحه المرعبه ... طابورٌ طويل من الأطفال ... ينتظرون دورهم لأخذ الحقنه ... أقف في الصف معهم ... و أنا جداًّ مرعوب ... صياح مزعج قادم من غرفة "التَّوْتِين" ... عشرةٌ أطفال أمامي ... عشرةٌ فرصٍ أمامي للهروب ... من إبرة الطبيب ... ولكن ... كيف لي ذلك ... وأبي لي بالمرصاد ... لايلبث أن يشجعني كل حين ... يتناقص عدد الأطفال في الطابور ... وفي كل مرة ... تزداد دقات قلبي ... و تتسارع أنفاسي ... إين المفر ... لم يتبقى أمامي غير طفلٍ واحد ... يدعوه الطبيب ... بينما أقفُ متمنياً أن تنتهي وردية الدكتور ...

تمسك بي الممرضه لتقودني إلى حتفي ... مشدود الأعصاب كنت ... الطبيب جالس على كرسيه ... هناك إناءٌ من الحديد المصقول اللامع ... فوق موقد صغير ... حيث يعقمون الأبر بالماء المغلي ... ... برودة شديده تجد طريقها إلى أطرافي ...  يزداد رعبي عندما اقتربت من الطبيب ... يمسح كتفي بمسحةٍ طبيه ... و بالموسى يحدث عدة شقوقٍ عميقه ... مؤلمه ... ثم يضع عليها قطنةٍ مشبعة بدواءً ذو رائحةٍ أخَّاذه ... في نفس الوقت ... الممرضه تمسح ساعد يدي الثانيه ... ثم تطلب مني الدوران لكي تكون يدي الأخرى ... من جهة الطبيب ... تحاول الممرضة لفت نظري ... بأسألةٍ سخيفه ... عن عمري و دراستي ... لم أعِرها إنتباهاً ... لعلمي بمقصدها ... فجأه ... انغرست إبرةٌ عظيمة في ساعدي ... أشد عضلاتي بقوه ... يسألني الطبيب أن أسترخي ... و أنّا لي ذلك ... و هذه الإبرة العظيمة مغروسةً في جسدي ... أبدأ في الصياح الشديد من شدة الألم ... ألتفت يمنةً و يسرة ... لعلِّي أرى منقذتي ... أمي الحبيبه ... ولكن هيهات ... هناك فقط الطبيب المجرم ... و الممرضه المساعده على الإجرام ... و عيون طفل لدى الباب ...  زائغةً ... مرعوبه مما قد يتلقَّاه بعد قليل ... يسحب الطبيب الإبرة من جسدي ... لأنطلق خارجاً من الغرفة الكريهه ... موليِّاًّ الأدبار ...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

قبل أن أكون

 قبل أن أكون يا ترى .. أين كنت قبل أن أكون؟ أكنت في عالم الذر بداية إلى أن كتب الله لأبي وأمي أن يلتقيا لأكون؟ نعم، لقد كنا أرواحا بلا أجساد...